بيروت … أنطوان صقر
هي واقعة هي واقعة فريدة من نوعها، وليست مثل الوقائع التي مر بها لبنان إبان حربه الأهلية الشرسة، التي قامت سنة 1975م، بين اليساريين والقوميين والمسيحيين والمسلمين والشيعة، حينها كان لبنان من دون أمن وتسبب ذلك في مذابح عنيفة واغتيالات وانفلات أمني شديد في كل أرجاء الوطن. ما سمح لإسرائيل باحتلال الجنوب وبداية تنفيذ مشروع بناء المستوطنات لليهود المهاجرين.
ليتحول لبنان إلى مرتع لمخابرات العالم، حيث قُسمت شوارع بيروت وأحيائها بين الميليشيات المسلحة، فباتت بيروت الغربية تابعة للمجموعات المدعومة من اليسار والقومية كالاتحاد السوفياتي وليبيا وسوريا والعراق، في حين أصبحت بيروت الشرقية تحت هيمنة للمجموعات المسيحية التي يدعمها المعسكر الغربي خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، فكان يمنع التنقل أو التجوال بين المنطقتين إلا بالتصريح الأمني القانوني المشددين من الطرفين.
ووسط كل هذا وذاك يظهر متسول نتن أخرس في شوارع بيروت سُمي بأبو الريش، اسم أطلقه سكان بيروت على هذا المتسول لجهلهم لنسبه وانتمائه ولعدم توفر معلومات كافية عنه. كان يحمل كيسا كبيرا من الخيش على ظهره، حافي القدمين ومتسخ اليدين وأشعث الشعر واللحية، معطفه بلا لون وممزق كان يرتديه صيف وشتاء، تنبعث منه رائحة الجيفة، ملامح وجه مختفية بسبب الأوساخ المتراكمة على وجهه، كان أبو الرش يتخذ من السماء غطاء ومن أرصفة الأزقة فراشا له، يعيش من صدقات الشعب اللبناني، لم يكله أحد لأنه أخرس، ولم يقترب من أحد لأنه نتن ورائحته مقززة، كان دائم الجلوس بجانب المثقفين اللبنانيين والعرب المنتشرين في النوادي والمقاهي، كما كان دائم التجول بين المسلحين والقادة العسكرين والمعارضين، يسمع منهم كل شاردة وواردة، كل الأحاديث كانت مهمة بالنسبة إليه حتى التافهة منها، يركز في أدق التفاصيل وهو يشرب كوب القهوة أو الشاي، الذي يتصدقون به عليه، ثم يحللها ليرسلها إلى الموساد بتل أبيب، عن طريق جهاز الارسال مورس الذي يستعمله أمام المارين وكأنه جهاز مذياع.
أبو الريش كان يرفض أن يتصدق عليه بالمال، كل ما كان يقبل به سيجارة واحدة وخبزا واحدا وطعام قليل. الحرب الأهلية اللبنانية الطاحنة تزداد حدتها يوما بعد يوم، كل الأهالي هجروا أماكنهم وغيروا إقامتهم إلى أبو الريش، وكأنه يعيش في عالم آخر كله أمان واستقرار، مطمئنا وبعيدا كل البعد عن المعارك والاغتيالات الدائرة. كل هذا والمتسول لم يترك شارعا إلا وقضى فيه ليلته، ولم يعتق أي تجمع من الأهالي يتناقشون ويتحدثون فيه إلا وجلس بجانبهم يسمع كلامهم مع كل التفاصيل، أخرس نقل أخبار المقاومة المعلومات للموساد، مهما كانت نوعيتها أو قيمتها تصل كل يوم إلى تل أبيب، دون أن يشك أحد فيه.
وفجأة وفي ظل المعارك الشرسة، يختفي أبو الريش من بيروت لينتبه الناس لغيابه، انتابهم القلق عليه، وحزنوا جدا لفراقه، حيث بدأوا في البحث والسؤال عنه، لدرجة إطلاق حملات واسعة ومكثفة للاستعلام عنه، وهل هو على قيد الحياة أم توفي خلال القصف.
بدأ الزحف الإسرائيلي واجتياحه لبيروت سنة 1982م، ما سبب اشتباك عنيف مع المقاومة والميليشيات، ما جعل الأهالي يلزمون منازلهم خوفا من الرصاص والقصف العشوائي العنيف، وإذا بالمتسول النتن الأخرس يظهر مجددا يتخذ وسط ساحة الشهداء ببيروت مكانا له، متجاهلا كل ما كان يحدث حوله، كانت الأجواء حينها مرعبة والجثث مرمية في كل مكان، والدماء والحرائق والانفجارات، ما أثار دهشة الثوار والمقاتلين اللبنانيين، كانوا ينتظرون استشهاده في أي لحظة على أساس أنه لبناني، إذ تفاجئهم سيارة عسكرية مصفحة رباعية الدفع تابعة للجيش الإسرائيلي تتوقف أمام المتسول النتن، وينزل منها ثلاثة ضباط برتبات عالية ومرموقة برفقة الجنود بعربات مدججة بالأسلحة والمعدات الدفاعية قصد حمايتهم للمكان، بعدها وقف الجنود مكونين دائرة حول أو الريش، حاملين بنادقهم ومستعدين لأي هجوم محتمل، لدرجة اعتقاد ثوار لبنان وميليشياته أن أبو الريش أوشكت نهايته. وكانت الصاعقة، ليتفاجؤوا بالقائد الأعلى للقوات الإسرائيلية يؤدي التحية العسكرية للمتسول النتن وهو يقول بالعبرية قائلا: باسم جيش الدفاع الإسرائيلي أحييكم سيدي العقيد وأن إسرائيل تشكركم وتقدم امتنانها لكم على جهودكم وتفانيكم في خدمتها فلولاكم ما كنا ندخل بيروت بسهولة وأريحية.
فرد عليه المتسول الأخرس ضاحكا وهو يقول: لا بأس ولكنكم تأخرتم قليلا أيها المقدم. ثم ركب أو الريش السيارة العسكرية المصفحة وتحركت خافها السيارات العسكرية والمدرعات الأخرى متجهين نحو الجنوب المحتل.
الكل كان تحت تأثير الصدمة والذهول، كيف لهذا المتسول الذي طالما ظنوا أنه أخرس وبلا مأوى، أقنعهم بأنه يستحق العطف والشفقة، عاش بينهم ووسطهم طوال هذه السنين يتصدقون عليه، يكون عقيدا في جيش الدفاع الإسرائيلي.