الدكتورة روث نيسانوف في الواقع هي أمينة المفتي، هي أردنية من أصل شركسي، غيرت وطنها واسمها ودينها الإسلام إلى اليهودية سنة 1967م. في الواقع أمينة المفتي، عميلة الموساد المرتبطة بأحد أكبر أخطاء الوكالة. حيث أصبحت بعد وفاة زوجها الطيار في سلاح الجوي الإسرائيلي أشهر جاسوسة عربية في تاريخ الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية “الموساد”، حالت معلوماتها دون تنفيذ حركة التحرير الوطني الفلسطيني” فتح“ العشرات من عملياتها ضد الاحتلال الإسرائيلي حتى وصفت بـ”لؤلؤة المخابرات الإسرائيلية”، اعتقلت عام 1975م وسجنت 5 سنوات، وتمت مبادلاتها مع أسرى فلسطينيين في 13 فبراير/شباط 1980م، توفيت عام 2008 ودفنت في الأردن.
ولدت أمينة داود محمد المفتي في الفاتح من يناير/ كانون الثاني عام 1939م بضواحي العاصمة الأردنية عمّان وتحديدًا بـ “الصويلح” لأسرة مسلمة ثرية من أصول شركسية انتقلت منذ عقود من منطقة القوقاز للاستقرار في الأردن، أين تولى عدد لا بأس به من أفراد الأسرة مناصب عليا في المملكة الهاشمية.
والدها كان تاجر مجوهرات ثريًا، ووالدتها كانت مثقفة وتتقن 4 لغات، عمها كان لواء في البلاط الملكي، وكانت هي آخر عنقود الأسرة فنشأت مدللة وكبرت في ظل الرخاء والرفاهية.
درست أمينة المدللة في أرقى المدارس بالعاصمة الأردنية عمّان وتميزت بذكائها وخفة دمها، كانت متحررة وتسخر وترفض الامتثال إلى عادات وتقاليد أسرتها المحافظة المتدينة. وهنا تحديدًا وفي سن المراهقة، تعلقت بشاب فلسطيني الأصل يدعى بسام أسرته من الطبقة الكادحة. لنه صدمها بقرار قطع العلاقة معها لتضايقه من أنانيتها وغرورها وتعجرفها وتقلّب طباعها ومزاجها، مما أثر سلبا في مستواها الدراسي، ولم تحصل على البكالوريا بمعدل يليق بمكانة أسرتها.
وللهروب من طوق العادات والتقاليد وأيضًا من نكستها العاطفية، ألحت أمينة على عائلتها لمزاولة دراستها في أوروبا. وبالفعل، قررت عائلتها إرسالها إلى النمسا لمتابعة دراستها الجامعية في تخصص علم النفس سنة 1957م، ووجدت هناك ما كانت تبحث وتسعى إليه. فكانت في حياتها الجديدة في الغرب تلتقي بفتيات من دول مختلفة يأخذنها بدافع من جموحها وتمردها إلى عالم الإباحية والشذوذ والتحرر من كل القيود الأخلاقية والاجتماعية والدينية أيضًا. واستمرت أمينة المفتي على هذا الحال إلى أن حصلت على ليسانس في علم النفس عام 1961م من جامعة فيينا.
عادت إلى الأردن، لكنها سرعان ما قررت العودة إلى فيينا بعدما علمت بزواج حبيبها الفلسطيني بسام من فتاة جميلة من أسرة متواضعة. بررت سفرها باستكمال دراستها العليا لنيل شهادة الماجيستير والدكتوراه في التخصص نفسه.
تجردت أمينة المُتحررة من كل قيمها وأعرافها وتقاليدها وتعاليم دينها الإسلامي، وعاشت كالفتيات الغربيات، وعلى الرغم من أن والدها كان يرسل إليها ما يكفيها من المال لأجل تسديد مستحقاتها، إلا أنَّها كانت تعمل كمُضيفة في ورشة صغيرة للعب الأطفال بالموازاة مع الدراسة.
وانتقلت أمينة من عالم روتيني إلى آخر أكثر تحررا وديناميكية. حيث في هذا العمل حدث تحول آخر أكثر “فضاعة” في حياتها خاصة بعد تعرفها على زميلتها في العمل اليهودية “سارة بيراد”. فباتت شريكتها في السكن وأمور أخرى من الأحسن عدم البوح بها! بعد فترة وجيزة انخرطتا معا في ما عرف بـ”تيار الهيبيز” وهي حركة نشأت في بداية ستينيات القرن العشرين في جامعات أوروبا، ترفض العادات والتقاليد السائدة في المجتمع وتدعو إلى الحرية الجنسية وغير ذلك. وتوطدت العلاقة بينهما لدرجة أنَّ سارة أخذتها معها إلى منزل العائلة لتعرّفها على أسرتها. وهناك تعرفت المتحررة أمينة المُفتي على شقيق سارة الأكبر موشيه الذي كان يعمل طيارًا عسكريًا برتبة نقيب، ودخلت معه في علاقة عاطفية.
وعادت مرة أخرى إلى بلدها في سبتمبر/ أيلول 1966م، واستقبلها أهلها باحتفال كبير لحصولها على الدكتوراه. وهنا طلبوا منها الموافقة على الزواج بابن عمها فلم تجبهم بالرفض، لكنها طالبتهم بمهلة إلى أن تنهي إجراءات افتتاح مستشفى خاص في العقبة أو عمّان، لكن ولسوء الحظ، كان هنالك توتر بينها وبين وكيل وزارة الصحة جعلها تشكوه إلى وزير الصحة، وهي الشكوى التي فتحت عليها باب جهنم، إذ أمر الوزير بالاهتمام بها وفتح تحقيق عاجل بشأنها، وفي سياق التحقيق شككت اللجنة القانونية في تصديقات شهادتها العلمية، وطلبت منها تصديقات أخرى من الجامعة بفيينا.
وتفاديا لانكشاف أمر تزوير شهادة الدكتوراه والتسبب في فضيحة لأسرتها طارت للمرة الثالثة إلى فيينا في لحظة محنة ونكسة 1967، لم تعبأ بذلك كله وعادت إلى حبيبها موشيهبيراد الذي عرض عليها الزواج شريطة التخلي عن دينها الإسلام واعتناق اليهودية، فوافقت دون تفكير أو تردد وتم الزواج رسميا في تلك السنة في معبد شيمودت بفيينا وغيرت اسمها إلى “آني موشيه بيراد”.
استقرت مع زوجها في فيينا وعاشت أحلى أيام عمرها، “حقيقةً موشي كان يعبدها”. حياة أمينة أو آني كانت مستقرة ناهيك عن عدم علم أسرتها بهذا الزواج. واستمرت على هكذا حال إلى أن أبلغت السفارة الأردنية في فيينا أهل أمينة بزواجها من اليهودي موشي بيراد واعتناقها اليهودية. فتحولت حياتها إلى جحيم، بسبب تهديدات أهلها بوضع حدٍّ لحيلتها.
في صيف سنة 1972م، قرأت أمينة إعلانًا بإحدى الصحف النمساوية التابعة للجالية اليهودية تعرض فيه إسرائيل مرتبات وامتيازات مغرية ليهود أوروبا للتطوع والالتحاق بالجيش الإسرائيلي. وبقيت أمينة تزن وترن فوق رأس موشيه، إلى أن أقنعته بالالتحاق بجيش الإسرائيلي بسبب خوفها من ملاحقة أسرتها لها. وفعلًا سافر الزوجان معًا في نوفمبر/ تشرين الثاني 1972م إلى إسرائيل حيث استقبلا بحفاوة كبيرة. وفي القدس، استدعتها جهات أمنية بعد أيام قليلة من إقامتها، وحققت معها بشأن نشأتها في الأردن وعائلتها، وكيف تعرفت على زوجها، ونظرتها لإسرائيل ومشاعرها نحو الأردن وفلسطين والوطن العربي ككل.
العمل مع الموساد
بعد لقاءات وحوارات وتحقيقات مكثفة، عبرت من خلالها أمينة عن بغضها الشديد وكرهها العنيد للعرب وخاصة فلسطين وشعبها وعدم اعترافها بالقضية الفلسطينية، حصل زوجها موشيه بيراد على رتبة رائد طيار في سلاح الجوي الإسرائيلي، كذلك، ولأنه زوج أمينة خضع لتدريبات الاستطلاع الجوي.
فرحة وسعادة أمينة لم تكتملان، فسرعان ما فقدت زوجها بعدما أسقطت المدفعية السورية طائرته من نوع “سكاي هوك” في أول طلعة استطلاع له في آخر يناير/ كانون الثاني 1973م، وأُعلن مفقودا بعدما انفجرت الطائرة في الجو، في حين لم تعلن سوريا عن أسره كما جرت العادة في مثل هذه الحالات. والحقيقة، هي أنَّ إسرائيل ضحت بزوجها كي يتم السيطرة على أمينة كليًا وتجنيدها لصالح إسرائيل ضد الفلسطينيين.
خبر موت وفقدان زوجها كان مثل الصاعقة المفاجئ، ة، وجن جنونها، لأنها لم تفقد زوجها فقط، بل باتت وحيدة طريدة من دون أسرة ولا عائلة بين قوم تجهل ثقافتهم ولغتهم ونواياهم. واستعابت أمينة الصدمة حيث شككت في البيان السوري، وقالت إن زوجها موشيه ما زال حيًا، واستأذنت للسفر إلى بيروت ودمشق لتقصي أخباره، فأذن لها وسافرت من فيينا إلى بيروت بجوازها الأردني، وقامت برحلات متعددة بين بيروت ودمشق ولم تصل إلى شيء يذكر. حينها، اقتنعت بموت زوجها واستسلمت كليًا للوضع الجديد.
وجد جهاز الموساد في أمينة مواصفات العميلة والجاسوسة المطلوبة للعمل بين الفلسطينيين، امرأة جميلة ودكتورة، وتعرف لغتهم وثقافتهم وبيئتهم، وتحقد عليهم وتكرههم. فوفروا لها كل الظروف الملائمة وقدموا لها كل التسهيلات اللازمة لإنهاء إجراءات الإرث مع عائلة زوجها بيراد، فحصلت على نصف مليون دولار وشقة في فيينا وضمانات لحماية أمنها. ثُم بعد أيام قليلة، جُنّدت بسهولة، وخضعت لتدريبات مكثفة بشأن متطلبات عملها من نقل الأخبار وتصوير وإرسال وتشفير والإفلات من المراقبة، وما إلى ذلك.
في الثالث من أكتوبر/ تشرين الأول 1973م سافرت أمينة إلى فيينا، حيث تسلمت من عميل الموساد الذي جندها الضابط رافي ساتون الجواز الأردني ووسائل العمل. بما في ذلك، جهاز لاسلكي متطور على شكل راديوم وتذكرة سفر إلى بيروت بعدما حددت مهمتها في جمع أخبار قيادات المنظمات الفلسطينية ورجالها وكل التفاصيل عنهم، وعلى رأسهم حسن سلامة المكلف بحراسة رئيس حركة فتح ياسر عرفات ورئيس أمن ومخابرات الحركة.
تعرفت في بيروت على شخصين سهَّلا وصولها إلى معلومات في غاية الأهمية مقابل منحهما جسدها، موظف الاتصالات مانويل عساف الذي سلمها عناوين القادة الفلسطينيين وأرقام هواتفهم، ورئيس مانويل في العمل مارون الحايك الذي مكنها من أرقام الهواتف السرية للمنظمات الفلسطينية وزعماء الجبهات، وخاصة التصنت على مكالماتهم الهاتفية.
كان مارون مصدر أخبارها ومفتاحها للوصول إلى ما تريد، فزادته فوق الجسد المال كذلك إلى أن صارحته بأنها جاسوسة وعميلة للموساد وجندته معها بعدما هددته بالصور الفاضحة التي تجمعهما وتسجيلات صوتية له وهو يعطيها أرقام تلفونات رجال وقيادات المنظمات الفلسطينية.
مكنها مارون من الاستماع إلى مكالمات بين القادة الفلسطينيين وزعماء الجبهات، ومعرفة مواعيد العمليات الفدائية وأماكنها داخل الأراضي المحتلة، مما شكّل خدمة كبيرة لإسرائيل حالت دون حصول عشرات العمليات.
تمت متابعة واعتقال واغتيال عدد من القيادات الفلسطينية، بل وتوجيه جيش الاحتلال الإسرائيلي بقصف عدد من المواقع المدنية والعسكرية في فلسطين ولبنان.
تسللت أمينة المُفتي وسط الفصائل الفلسطينية بكل سهولة. كذلك، تعرفت على القيادات كونها الطبيبة المتطوعة في ملاجئ الفلسطينيين في لبنان، ولا سيما في الجنوب، إلى أن وصلت إلى مكتب رئيس المنظمة الفلسطينية ياسر عرفات أين أظهرت له حماسها للتطوع وتأييدها لنضال المنظمة الفلسطينية وشرعية معركتها الباسلة، فمنحها ياسر عرفات تسهيلات وخدمات مما يسهل عليها للدخول إلى جميع المواقع الفلسطينية، سواء العسكرية أو المخيمات وما إلى ذلك.
الوصول إلى حسن سلامة الذي لقبته غولدا مائير بـ “الأمير الأحمر” الحارس الخاص لياسر عرفات، والمكلف بأمن ومخابرات “فتح” وقوات الحرس الداخلي ومعرفة صورته وأسماء قيادات وعملاء المخابرات الفلسطينية في أوروبا، كان من أكبر مهامها وأهمها. بأساليبها ومجنديها، تمكنت أمينة المُفتي من الوصول إليه. والذي كان سببًا وجيها في كشفها واعتقالها. خاصة حين سألته عن أولاده. فارتاب من أمرها، إذ لم يكن أحد يعرف أنه متزوج من ملكة جمال الكون السيدة جورجينا رزق ” وحاليًا زوجة المطرب اللبناني وليد توفيق” ولديه ذُرية منها أيضًا.
ورغم طلب حسن سلامة من رجاله في عمّان البحث عن معلومات سرية تحص الطبيبة أمينة المفتي، فأجابوه بأنها فعلا طبيبة أردنية درست في النمسا وغادرت بلادها بعد نزاع مع أهلها، إلا أنَّ شكوكه تبددت بسرعة ووثق بها مُجددًا.
وتمر الأيام، وامينة تعمل لصالح الموساد في قلب المنظمة الفلسطينية، إلى أن جاء بلاغ سري من ألمانيا إلى حسن سلامة يخبره فيه بأن شابا فلسطينيا في فرانكفورت بأن هنالك شاب فلسطيني بفيينا له صديقة نمساوية يهودية تدعى سارة بيراد توفيت جراء المخدرات، وهي شقيقة موشي بيراد المفقود والذي تزوج من فتاة عربية مسلمة درست الطب وهربت معه إلى إسرائيل، وأنَّها انتقلت إلى لبنان بعد سقوط طائرة زوجها وفقدانه.
لم يستوعب حسن سلامة الأمر، وأمر فورًا بفتح تحقيق واستقصاء آخرين عن أمينة المُفتي، وحُصرت كل الطبيبات العربيات المتطوعات في فلسطين ولبنان، وكن أربع طبيبات عربيات، وأمينة واحدة منهن، ووضعن تحت المراقبة لفترة لا بأس بها، وصلت الأخبار إلى إسرائيل عن طريق واحد من رجال المنظمة الفلسطينية، فطالب الموساد أمينة بالتخلص من أجهزتها ومُعداتها والهرب من لبنان. لكن المخابرات الفلسطينية عاجلتها واعتقلتها في 8 سبتمبر سنة 1975م. حين لاحظها أحد أفراد منظمة فتح عندما أوقفت سيارتها وراقبت المجمع بالمنظار. ورغم كل ذلك، ولم تجد المخابرات الفلسطينية في شقتها ما يدينها لأنها أخفت وتخلصت من كل شيء.
تعرضت أمينة لتعذيب جسدي ونفسي شديد وحكم عليها بالسجن عشر سنوات، وتم سجنها في كهف في ظروف غير إنسانية لم تر نور الحياة، بما في ذلك الاهانات والاغتصاب. وبقيت أمينة معتقلة فيما التحريات عنها متواصلة، واستطاعت أجهزة حسن سلامة الوصول إلى شقتها في فيينا، ووجدت مذكراتها التي كشفت كثيرا عن حياتها، ولا سيما زواجها من يهودي وسفرها معه إلى إسرائيل وعمالتها للموساد.
ومع انكارها وعدم اعترافها كونها مجندة بشكل رهيب، اختار سلامة حيلة في التحقيق معها، حيث قال لها بأنَّ زوجها موشيه كان أسيرا لدى سوريا ووقد تم إطلاق سراحه منذ بضع أيام ضمن عملية تبادل الأسرى. ولكي يكون كلامه مقنعًا وخاليًا من المراوغات سربوا لها صحيفة كدليل قاطع طبعت منها نسخة واحدة ووحيدة تضمنت خبر الإفراج عن موشيه في صفحتها الأولى وسط زملائه قبل مغادرته الأسر برفقة الصليب الأحمر، فصدمت الجاسوسة بالخبر، ورغم كل ذلك، استمرت أمينة في الإنكار. حينها، لجأت المنظمة الفلسطينية إلى استعمال العنف وأساليب التعذيب والقهر.
تدخلت السلطات اللبنانية، وطالبت بتسلمها التحقيق معها، لكن تدخّل القيادي الفلسطيني أبو إياد لدى وزير الداخلية اللبناني أعاد أمينة إلى المخابرات الفلسطينية للتحقيق معها. وتمكنت مخابرات المنظمة الفلسطينية من جعل أمينة تعترف بمن جندها في الموساد والمعلومات التي أرسلتها وشبكتها في بيروت. وبعد اعترافها الكامل والمفصل، طالب حسن سلامة الذي اغتيل لاحقاً عام 1979م بإعدامها لإخافة عملاء إسرائيل، لكن ياسر عرفات كان له رأي آخر، واختار مبادلتها بأسرى فلسطينيين.
في المُعتقل، حاولت أمينة التأثير على حارسها بعدما أقنعته ببراءتها فحاول إخراجها من السجن، لكن أمره انكشف فأعدم بالرصاص في أكتوبر/ تشرين الأول 1976م. وتمر الأعوام وتحديدًا 5 سنوات وأمينة في السجن المشدد ليتم الإفراج عنها في 13 فبراير/ شباط 1980م في صفقة مقايضة بالأسرى الفلسطينيين مهدي بسيسو ووليام نصار في لارناكا بقبرص بإشراف الصليب الأحمر.
عادت أمينة المُفتي إلى تل أبيب وانتهت علاقتها بالموساد ومنحت لها 60 ألف شيكل مكافأة وأُمّن عيشها وأمنها. ومنزلا جميلًا في مستوطنة كريات يام شمال حيفا بحماية أمنية مشددة خوفا من تهديد عائلتها، وعاشت بقية حياتها وحيدة وفي حالة نفسية صعبة واكتئاب ظل يلازمها طوال فترة حياتها المتبقية، بسبب فشل كل محاولاتها لتجديد الصلة بأسرتها وأهلها في الأردن دون جدوى.
لدى وصولها إلى إسرائيل، دخلت أمينة المفتي إلى المستشفى وأجريت لها عمليات جراحية لإعادة بناء فكها المكسور، وتغيير ملامح وجهها، واستبدال أسنانها، وزراعة شعرها الذي أصبح خفيفا في الأسر، وحصلت على هوية جديدة باسم “الدكتورة روث نيسانوف” بما في ذلك تاريخ ميلاد جديد وهوية إسرائيلية. عملت الدكتورة روث نيسانوف كطبيبة نفسية في قسم التخدير في مركز شيبا الطبي. وكان يرأس القسم آنذاك الدكتور يونا إليان، الذي اشتهر بتخدير أدولف أيخمان خلال عملية الموساد للقبض عليه.
لكن، بعد أن ترك الدكتور إليان منصبه، طُردت أمينة روث وعملت في أحد فنادق البحر الميت، لعلاج مرضى الصدفية، وبعد ذلك انتقلت إلى منزل في الخضيرة، ولكن يبدو أنها تراكمت لديها حالة من الاستياء تجاه المؤسسات الإسرائيلية. وبعد ذلك انتقلت إلى الناصرة. في تسعينيات القرن العشرين. عندها، قررت فتح عيادة في الناصرة لعلاج مشاكل الجلد. أين تواصلت مع عائلة مسلمة لمريضه متزوجة من إمام مسجون بتهمة التحريض ضد السامية.
في مطلع عام 1984م، نشرت مجلة “بمحانية” العسكرية الإسرائيلية خبرًا يقول فيه بأنَّ وزير الدفاع أصدر قراراً بصرف معاش دائم للمقدم آني موشيه بيراد التي تصدرت لوحة الشرف بمدخل بمبنى الموساد، وهي لوحة تضم أسماء أمهر العملاء ويطلق عليهم “الأصدقاء الذين أخلصوا لإسرائيل”.
في عام 1994، بعد توقيع إسرائيل على اتفاقية السلام مع الأردن وفتح الحدود بينهما، سافرت أمينة لزيارة عائلتها في عمان، ولم ترحب بها الأسرة بسهولة، ولكن فيما بعد تجددت العلاقة، وقامت بزيارات لاحقة. وفي عام 2008، أوصت بترك جميع أصولها في إسرائيل لعائلة الإمام. وعادت لاحقًا إلى عمان، وفي نهاية عام 2008، توفيت عن عمر يناهز 69 عامًا ودُفنت في الأردن.
فضيحة ليلهامر في النرويج
في 21 يوليو / تموز سنة 1973م، عاد أحمد وتوريل بوشيخي إلى المنزل بعد قضاء أمسية في السينما. كان نادلًا من أصل مغربي وكانت زوجته النرويجية حامل في شهرها السابع. كلاهما يقيم في منتجع التزلج الهادئ ليلهامر بالنرويج.
ولسوء الحظ، ظن عملاء الموساد أنه علي حسن سلامة، رئيس عمليات جماعة أيلول الأسود الإرهابية الفلسطينية، المسؤولة عن مذبحة الرياضيين الإسرائيليين في أولمبياد ميونيخ عام 1972. وقد أدى هذا الخطأ إلى مأساة اغتيل بوشيخي في 21 يوليو 1973م. فيما أصبح يُعرف فيما بعد باسم “قضية ليلهامر”، والتي تعتبر أكبر فشل للموساد حتى الآن. تم الكشف عن معظم الأسماء للعامة على مر السنين، باستثناء شخص واحد ظل مجهولا: وهو الذي قدم المعلومات التي بدأت تأثير كرة الثلج التي أدت إلى الخطأ المأساوي.
وحسبما صرح به نوعام تيبر بأنَّ الدكتورة أمينة داود المفتي هي المصدر الذي نقل التفاصيل إلى الموساد. الرجل الذي جندها في الموساد هو رافي ساتون. الذي كان في أواخر الستينيات قائدًا لوحدة المخابرات 504، حث تلقى ساتون، معلومات من أحد أعضاء حكومة بيت لحم عن امرأة تبدو مثيرة للاهتمام للغاية وقام بترتيب لقاء معها بالصدفة.
رأى رافي ساتون أمينة تدخل كنيسة المهد في بيت لحم وأحياناً تخرج للتدخين. ففتح الحديث معها قائلًا: “العصر الحديث. النساء العربيات يدخن السجائر في الأماكن العامة!”. ومن تلك اللحظة بدأت صداقة بينهما وتوطدت.
لم تكن أمينة تريد المال مقابل خدماتها بقدر ما كانت تبحث عن الانتقام. وفعلت كل شيء لأسباب أيديولوجية لمساعدة دولة إسرائيل.
في مرحلة معينة، التقى بها رافي ساتون مرة أخرى. عندما كان يشغل منصب رئيس محطة الموساد الأوروبية، أُبلغ أنه من المفترض أن يأتي إليه عميل، والذي تبين بشكل غير متوقع أنه أمينة. وفي عام 1972م، وبتشجيع منه، بدأت العمل في مكاتب جامعة الدول العربية، حيث تم قبولها بأذرع مفتوحة، ومن هناك قامت بنقل المعلومات إلى القائمين عليها. وظاهريًا، بدت وكأنها الشخص المناسب في المكان المناسب، ولكن كانت هنالك مشكلة. لم تكن حذرة ويقظة بالقدر الكافي. ولذلك، ولأسباب تتعلق بالسلامة، تقرر الاتصال بها بشكل رئيسي عبر الاتصال الهاتفي.
في أوائل يوليو 1973، ذهب ساتون في إجازة، وتم نقل عملية أمينة إلى عميل آخر. وبعد فترة وجيزة، تلقى منها بلاغاً هاتفياً عن إشاعة سمعتها في المكتب مفادها أن علي حسن سلامة سيستقل رحلة محددة من جنيف إلى أوسلو في تاريخ معين. بسبب خطأ، لم يتم نقل بداية الجملة بشكل صحيح، وتم التعامل مع المعلومة كما لو كانت حقيقة. ونتيجة لذلك، بدأت العملية المشؤومة لاغتيال سلامة.
وعلى الرغم من هذا الحادث، واصلت العمل كوكيل. وقبل أن ينهي رافي ساتون دوره في إحدى الدول الأوروبية، حرص على كتابة مذكرة تحذيرية بشأنها، ذكر فيها أنه بسبب عدم حذرها، لا ينبغي إرسالها في أنشطة عملياتية في الدول العربية. ومع ذلك، أُرسلت عام 1975م إلى بيروت لمراقبة المنطقة التي ينشط منها أعضاء “أيلول الأسود”.