كانت القاهرة ولا تزل أهم محطة فنية لكل فنان. لقد اهتم الوسط الفني بوجود فيروز في القاهرة، وكالعادة بدأت تنهال عليها عروض العمل بالسينما، كان المخرج حسن الإمام من أشد المتحمسين للتعامل مع الأخوين رحباني، وظلَّت هذه الرغبة تراوده وإن حالت الأقدار دائمًا دون إتمامها.
القاهرة … سميرة عبد الله
قسنطينة … الإعلامي عبد العزيز قسامة

في القاهرة طلب حسن الإمام من الأخوين رحباني أن يلحنا أغنية لفيلمه الجديد، وأن تقوم فيروز بالغناء والدوبلاج الصوتي فقط دون أن تظهر على الشاشة كما تريد، لكن الأخوين طلبا مبلغًا كبيرًا نظير التأليف والتلحين والتوزيع فلم يتم التعاون، لكنهما أشارا على حسن الإمام بالصوت المميز للفنانة المصرية الصاعدة نادية فهمي والتي كانا يودان التعامل معها، وهكذا بإيعاز من الأخوين أدت نادية فهمي بصوتها فقط أغاني فيلمي الملاك الظالم عام 1954م والجسد عام 1955م. بينما كان الأداء التمثيلي في الفيلمين للفنانة هند رستم.
امتدت إقامة فيروز والأخوين في مصر حتى أغسطس أي ما يقارب ستة أشهر، وهي أطول فترة قضاها الأخوان الرحباني وفيروز خارج لبنان، وأطول رحلة فنية لهم على الإطلاق، قدمت فيروز للإذاعة المصرية ما يزيد عن الأربعين لحنًا ما بين الأغنية القصيرة والقصيدة والبرامج الإذاعية، كما انتج الأخوين رحباني وفيروز هناك العمل الشهير راجعون لصالح إذاعة صوت العرب والذي ما يزال إلى اليوم من أجمل الأعمال الفنية التي قدمت حول القضية الفلسطينية.
وجهت إذاعة صوت العرب دعوة رسمية للأخوين رحباني ولفيروز لزيارة العاصمة المصرية لبث أغانيهما من الإذاعة المصرية، كان الكل مترقبًا للزيارة وعلى رأسهم محمد عبد الوهاب الأكثر حماسة وإعجابًا بالتجربة الفنية الرحبانية وبصوت فيروز، وفي منتصف فبراير عام 1955م وصلت فيروز مع الأخوين رحباني وشريكهم الفني المخرج صبري الشريف المشرف على البرامج الموسيقية في إذاعة الشرق الأدنى إلى القاهرة، كانت زيارة فيروز مع الأخوين رحباني بالتحديد بعد ثلاثة أسابيع من زواج فيروز وعاصي الرحباني.
زارت فيروز والأخوان رحباني وصبري الشريف في اليوم التالي مبنى الإذاعة المصرية للمرة الأولى، حيث تم الاتفاق مبدئيًّا على تسجيل 38 أغنية من ألحان الأخوين بصوت فيروز، وأفردت مجلة الإذاعة المصرية بعضًا من صفحاتها ترحيبًا بالضيوف وتعريفًا بهم وبفنهم للجمهور المصري الأنيق والمتذوق.
في القاهرة دائمًا، زارت فيروز والأخوين رحباني منزل محمد عبد الوهاب، وأهدى إليه الأخوان ديوانهما بعنوان سمراء مها الذي يضم العديد من المقاطع الشعرية الغنائية التي أذيعت بصوت فيروز، بينما أسمع عبد الوهاب الحضور أحدث تسجيل له لم يُطرح تجاريًّا بعد وهي أغنية قابلته، وهو لحن لطيف صاغه عبد الوهاب على إيقاع التانجو الذي يروق له وللأخوين وفيروز.
كان الملحن المصري سيد إسماعيل حاضرا في تلك الزيارة، وكوَّن صداقة متينة مع الأخوين الرحباني استمرت تلك الصداقة في لبنان، بعد أن تعاقدت إذاعة الشرق الأدنى مع سيد إسماعيل على تقديم مجموعة كبيرة من البرامج الغنائية.
كما زار محمد عبد الوهاب الأخوين رحباني وفيروز في منزلهم الذي استأجرته لهم الإذاعة المصرية في الزمالك، وكان حاضرًا في السهرة الكاتب والأديب توفيق الحكيم، والصحفي والناقد الفني أنور أحمد، وحسين فوزي مؤلف كتاب الموسيقى السيمفونية. عرض صبري الشريف على الحضور مجموعة من الأشرطة المسجلة التي أحضرها معه كنموذج بسيط من أعمال الأخوين رحباني وفيروز، ومدى ما وصلوا إليه في مجال الموسيقى في استديوهات محطة الشرق الأدنى، وفي ختام السهرة استمع الحضور إلى أوبرا دمبو الجبار للأخوين رحباني.
كانت الإذاعة قد أعدت مجموعة كبيرة جدًا من الأغاني والبرامج الجديدة احتفالًا بالربيع والأعياد واستعدادًا لرمضان، وكان لفيروز وألحان الأخوين نصيبًا جيدًا منها، سجلت فيروز مجموعة من الأغاني الراقصة لفترة الصباح والمساء وهي:
ـ روح يا بلبل.
ـ يريد زهرة.
ـ يا ليل بلادي.
ـ موطن القمر.
ـ سوف أحيا. من كلمات الشاعر المصري مرسي جميل عزيز وألحان الأخوين رحباني.
كانت القاهرة تعتبر آنذاك عاصمة الفن في العالم العربي من مسرح وأغنية وسينما آداب وإعلام، وجذب أداء فيروز في مصر العديد من العروض من الملحنين ومنتجي الأفلام الذين طلبوا منها أن تقوم بدور البطولة في أفلامهم، إلا أنها في ذلك الوقت كانت تنتظر مولودها الأول، فعادت فيروز إلى لبنان إلى بيتهم الريفي الهادئ في أنطلياس لتُنجب زياد الرحباني في الأول من يناير عام 1956م، الذي ألَّف ولحن لها ولغيرها فيما بعد العديد من الأعمال الجميلة الرائعة.
منذ عام 1955م وحتى وسط 1966م لم تزر فيروز مصر مرة ثانية، وعلى الرغم من النجاح المتزايد واللافت الذي حققته فيروز مع الأخوين رحباني هناك، إلا أن الإذاعة المصرية بدأت في التقليل من بث أغاني فيروز حتى كادت تنعدم، وسرت شائعات في الأوساط المصرية واللبنانية أن أغاني فيروز ممنوعة في مصر، ووصلت تلك الشائعات إلى حد التصريح في الصحافة، مما دعا أمين هويدي وزير الإرشاد القومي في مايو عام 1966م إلى توجيه دعوة رسمية إلى فيروز والأخوين رحباني لزيارة الجمهورية العربية المتحدة، فزارت فيروز مصر مرة أخرى في منتصف أكتوبر 1966م أي بعد 11 عامًا من زيارتها الأولى.
في 25 مايو 1966م، تلقت فيروز والأخوان الرحباني دعوة رسمية من وزارة الإرشاد القومي لزيارة الجمهورية العربية المتحدة. كانت أم كلثوم قد سافرت إلى لبنان لإحياء حفلتين في افتتاح مهرجانات بعلبك الدولية يومي 15 و17 يوليو من نفس السنة. حضرت فيروز الحفل بصحبة عاصي، وفي استراحة الوصلة الأولى ذهبت فيروز للسلام على أم كلثوم في غرفتها الخاصة بجوار الخيمة التي أقاموها لتغني تحتها أم كلثوم، لكن هذا اللقاء السريع لم يكن كافيًا، فحددت أم كلثوم موعدًا آخر يكون أكثر هدوءً وراحةً فنًا.
في اليوم التالي للحفل مباشرة والمصادف ليوم الاثنين 18 يوليو 1966م، ذهبت فيروز مع عاصي لزيارة أم كلثوم في جناحها الخاص بفندق بارك هوتيل في شتورة، ودار بينهم حوار طويل سألت أم كلثوم في نهايته: متى ستزورون مصر؟ يجب أن تعلمي أن هناك ثلاثين مليون معجب في انتظارك يا فيروز، فأجابت فيروز مؤكدة لها في أكتوبر إن شاء الله.
أنهى الأخوان رحباني وفيروز ارتباطاتهم الفنية مع مهرجانات بعلبك في أغسطس ومعرض دمشق الدولي في سبتمبر، واستعدوا للسفر إلى القاهرة لتلبية الدعوة المصرية، التي تجددت مرة أخرى على يد وزير الإرشاد القومي الجديد محمد فائق بعد التعديل الوزاري الذي حدث في سبتمبر.
في السادسة والنصف مساء الجمعة 14 أكتوبر عام 1966م وقف وفد مكون من مندوبي وزراة الإرشاد ووزارة الثقافة وهيئة السياحة لاستقبال فيروز وشقيقتها هدى حداد والأخوين رحباني، ورسَت السفينة التي تقلهم في ميناء الإسكندرية، وبعد وصولهم فُتِحَت لهم قاعة كبار الزوار في الميناء، ارتاحوا قليلًا ثم انطلقوا مع وفد الاستقبال بالسيارات إلى القاهرة، ووصلوا إليها بعد منتصف الليل، في الساعات الأولى من صباح السبت 15 أكتوبر. كانت وزارة الإرشاد قد حجزت لهم مسبقًا 3 غرف في فندق النيل.
في اليوم التالي ظهرت فيروز على صفحات الصحف المصرية وخلفها النيل وبرج القاهرة، ومن الشرفة المطلّة على النيل الذي يمتد حتى مبنى الإذاعة والتلفزيون المصري ماسبيرو وجسر الجلاء.
كان الجدول حافلًا بالزيارات، زار الثلاثي مبنى الإذاعة والتليفزيون، وأجروا لقاءات ونقاشات مع محمد أمين حماد رئيس التليفزيون، ثم عبد الحميد الحديدي مدير الإذاعة، ثم الصديق القديم أحمد سعيد مدير إذاعة صوت العرب، وأبدى عاصي رغبته في حضور أوبريت هدية العمر فمُد العرض لأسبوع آخر على مسرح دار الأوبرا لتتمكن فيروز وعاصي من مشاهدته.
زارت فيروز وعاصي صديقهم الدائم محمد عبد الوهاب في منزله، حمل عاصي معه تسجيل مسرحية أيام فخر الدين وكان أحدث أعمال فيروز، وجلس عبد الوهاب يستمع إليه قرابة الساعتين ونصف الساعة، استفسر محمد عبد الوهاب عن كل شيء في المسرحية وشرح له عاصي ومنصور معاني الكلمات، ووصفا له المشاهد وكأنه يراها.
التقت فيروز والأخوان الرحباني بوزير الإرشاد محمد فائق في مكتبه بمبنى الإذاعة والتليفزيون، واقتُرحت فكرة فيلم بعنوان بوابة الدموع عن القضية الفلسطينية، على أن تنتجه المؤسسة العامة للسينما، حظي الاقتراح بموافقة مبدئية بعد أن وعدهم نجيب محفوظ رئيس مؤسسة السينما الذي كان حاضرًا على أن يبحث الفكرة.
كما التقت فيروز والأخوين رحباني أيضًا بوزير الثقافة ثروت عكاشة الذي كان قد ترجم أعمال الشاعر اللبناني جبران خليل جبران عن الإنجليزية،و اهتمّ ثروت عكاشة بالحديث عن تجربة الأخوين وفيروز مع شعر جبران خليل جبران، وكانت فيروز حتى ذلك الوقت لم تغنِ من شعر جبران سوى أغنية أعطني الناي. في العام التالي غنت فيروز سكن الليل وفي عام 1969م غنت أغنية المحبة من كتاب النبي لجبران خليل جبران.
وفي مساء اليوم نفسه كانت هنالك دعوة عشاء وحفل تكريم لفيروز والأخوين رحباني من معهد الموسيقى العربية، لكن الحفل أُجل إلى يوم الأربعاء 26 أكتوبر بسبب وفاة الفنان محمد فوزي في برلين. تأثرت فيروز بشدة لسماع الخبر، وتذكّرت تلك السهرة من العام 1954م في أنطلياس، وهي ما زالت آنسة لم تتجاوز التاسعة عشرة، حين غنَّت يا بالالا على بزق عاصي الرحباني، وكان محمد فوزي وزوجته مديحة يسري حاضرين السهرة.
زارت فيروز والأخوين رحباني منزل أم كلثوم برفقة محمد عبد الوهاب، الذي أعاد مع أم كلثوم الاستماع إلى مسرحية أيام فخر الدين مرة أخرى، وكان التركيز هذه المرة على أغاني فيروز. اعتبر محمد عبد الوهاب مسرحية يام فخر الدين أحسن حوار دار بين رجل وامرأة في تاريخ الموسيقى العربية، وناقش مع أم كلثوم في تفاصيل دقيقة عجيبة مستغربًا كيف استطاع الأخوان الرحباني وفيروز أن يحولوا الآلات النحاسية مع الخشبيات إلى آلات وترية في أوبريت فخر الدين.
سألت أم كلثوم عن عملهم في الموسم المقبل، فأجاب عاصي أنهم يعدون مسرحية جديدة ستعرض على مسرح بيكاديللي في شارع الحمراء ببيروت، وستسجل فيروز عند عودتها إلى بيروت أغنية جديدة عن فلسطين من كلمات الشاعر سعيد عقل اسمها سيف فليشهر والتي غنتها فيروز لأول مرة في سبتمبر 1966م على مسرح معرض دمشق. صرحت أم كلثوم بأنها تحب وتتفاءل بأغنية سهار بعد سهار لفيروز، وأبدى محمد عبد الوهاب إعجابه الشديد بأغنية كتبنا وما كتبنا وأغنية خَطّة قدمكُن التي غنتهما فيروز.
كما حضرت فيروز عروض فرقة محمود رضا في مسرح البالون مع عاصي وشقيقتها هدى، وفي ختام العرض وجهت فريدة فهمي ومحمود رضا تحية لفيروز. ثم أقيم حفل تكريم في السفارة اللبنانية بحضور السفير حليم أبو عز الدين وقنصل عام لبنان وسامي الدروبي ممثل سوريا في الجامعة العربية، وفي اليوم التالي أقام مجلس إدارة جمعية المؤلفين والملحنين والناشرين حفل استقبال في نادي السيارات بوسط القاهرة، ووقف فيه الشاعر صالح جودت يلقي قصيدة مهداة لفيروز والأخوين.

وبدعوة رسمية من وزير الثقافة المصري السابق فاروق حُسني، زارت فيروز مصر مرة أخيرة عام 1989م لإحياء حفلها المعروف عند سفح الأهرام وأبو الهول الخالدة.