الانتقام قرار وخيانة مشروعة
القاهرة … مينا ميخائيل جرجس
في بداية سنة 1972م، سيدة شابة جميلة أنيقة وراقية، حزينة موشحة بالأسود، تدخل مبنى المخابرات العامة المصرية، وتطلب مقابلة رئيسها أو أحد إطاراتها الساميين، فاستقبلها نائب المدير كون المدير في مهمة سرية، في مكتبه قدم لها كوبا من عصير الليمون، وقبل أن تبدأ في سرد حكايتها انهارت وأجهشت ببكاء هيستيري. بعدها قالت: أنا دلال رستم كامل، جاسوسة لصلح إسرائيل.
من هي دلال رستم كامل؟
وسط العز والدلال ولدت دلال رستم كامل بسرايا والدها رستم كامل في منطقة الزمالك وهي عبارة عن جزيرة وسط نهر النيل، والتي كانت وما زالت من أرقى وأجمل المناطق في القاهرة. والدها الباشا رستم كامل الذي كان من الإقطاعيين الأغنياء الذين يملكون القصور والأراضي والمصانع في عهد المملكة في مصر. كانت دلال أية في الجمال عاشت حياة هنيئة ومثالية، تعلمت في أرقى المدارس والمعاهد، كانت تجيد أربعة لغات كالفرنسية والإنجليزية والإيطالية والتركية، تجيد السباحة وركوب الخيل، داه هذا العز إلى أن قامت الثورة المصرية في يوليو 1952م بقياد الضباط الأحرار، ليتم تأميم كل ممتلكات العائلة الملكية وكل من قربها سواء من قريب أو من بعيد وكذلك الإقطاعيين، ليتم وصعها تحت المراقبة وتصرف الحكومة المصرية آنذاك.
لم يتحمل رستم كامل ما حصل له ولعائلته لينتقل إلى رحمة الله تعالى إثر إصابته بجلطة دماغية أقعدته أسابيع ليصاب بعدها بسكتة قلبية، زوجته لم تتحمل أوضاع عائلتها الجديدة خاصة حالة زوجها المقعد لتتوفى قبله بأيام بسكتة قلبية هي الأخرى. أصبحت دلال يتيمة وبلا شيء، تنظر إلى أخيها الصغير عصام الذي باتت تعتبره الأخ والابن وكل العائلة تتمعن في وضعهما الحالي وتفكر فيه وكيف سيعيشان بتلك الجنيهات القليلة التي كانت الحكومة المصرية تصرفها لهما من تقاعد والدهما، وكيف ستواجه بمفردها الأيام المقبلة.
قررت دلال رستم كامل أن يستمر أخاها في تعليمه مثلما كان سابقان لذا قررت النزول إلى عالم الشغل مستغلة في ذلك مواهبها وشهاداتها ولغاتها الأربعة. لم تدم مدة البحث عن العمل طويلا، إذ تمكنت دلال من الحصول على وظيفة كمرشدة سياحية في أكبر شركات السياحة في مصر، لما تتمتع به من كفاءة وجمال ورقي في المعاملة مع الآخر.
تمر الأيام والأشهر والسنون، إلى أن تلتقي دلال بشاب مصري وسيم جذاب ناجح في أعماله يدعى جورج يقيم في إيطاليا، كان ضمن أحد الأفواج السياحية القادمة من إيطاليا. يلاحقها من مكان لآخر، حتى وقعت هي أيضا في حبه، بعد مدّ وجزر ولكونها مسيحية مثله، تقدم جورج أخيرا لخطبتها بشكل رسمي قبل رجوعه إلى إيطاليا لتلتحق به دلال في الأيام القليلة القادمة ليتم الزواج المدني. في حين بقي عاصم في مصر، إذ ألحقته دلال بإحدى المدارس الداخلية الراقية في القاهرة،
روما … الحلم الضائع
في روما عاشت دلال حياة سيدات القصور، هنيئة سعيدة لدرجة انها كانت تشعر وكأنها في حلم، تمرُ الأيام بوتيرة سريعة وحلوة، إلى أن أتى اليوم الذي قررت فيه دلال زيارة زوجها المفاجئة، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي المراكب، وصلت دلال إلى مقر عمل زوجها فتحت باب مكتبه فكانت الفاجعة والخيبة القوية، إذ وجدته في وضع مخل مع سكرتيرته الخاصة، كان جد طبيعي وعادي ام يتفاجأ ولم يرتبك، وحين عاتبته وأنبته، قام بطردها ورمى عليها يمين الطلاق ومنعها من دخول البيت وأخذ أغراضها الخاصة بها.
وجدت دلال نفسها في أزقة روما وحيدة مكسورة، لا أغراض ولا جواز سفر ولا نقود كافية، تجوب شوارع وأحياء روما إلى أن وجدت فندق صغير متواضع أسعاره متدنية، وحجزت فيه غرفة صغيرة تنعدم من كماليات الحياة. رغم كل هذه الأحداث كانت دلال رافضة تماما اللجوء إلى السفارة أو القنصلية المصرية، ويوم بعد يوم الديون تتراكم والاحتياجات تتزايد، لتشعر دلال بالملل والاختناق.
لاحظت مالكة الفندق ما تمر به دلال، تقربت منها لمعرفة أسباب حزنها واختناقها، وإذا بدلال تفرغ ما بجعبتها وتسرد لها قصتها بكل تفاصيلها. مالكة الفندة تتساءل عما يمنع دلال بالاستغاثة بسفارة بلدها، غير أن دلال ترفض الإجابة والتفسير عن ذلك، حينها أدركت السيدة بأن دلال كنز سوف تستغله خلال الأيام القادمة. فهونت عليها ووعدتها بأن تجد لها عملا يناسب مستواها التعليمي والاجتماعي. أيام معدودات وإذا بالسيدة تلتق بدلال مصطحبة معها كهلا في الخمسين من عمره يدعى إيميل.
الأمل القاتل
تحدث إيميل مع دلال وأخبرها عن معرفته لوضعها الحالي، وأن وجوده معها بحجة المساعدة لا غير، وأن صديقه العربي بحاجة إلى مترجمة تتقن الفرنسية والانجليزية والإيطالية، هو حاليا مسافر وسوف يرجع بعد أسبوع بدء من اليوم. تم أعطاها مبلغا ماليا لسد وتغطية مصاريفها، الذي وقعت به إيصالا وضعه إيميل في محفظته ثم ودعها، فرحت دلال كثيرا بالظروف المساعدة لها، وأن الأيام القادمة ستكون أفضل وأحسن، كنها لم تتيقن بعد أن هذا التصرف ما هو إلى الخطوة الأولى لبداية رحلة الخيانة والجاسوسية.
مر أسبوع واثنان وثلاثة أسابيع ودلال تنتظر العمل وصاحبه، إلى أن فاجأها إيميل بقدومه بصحبة رجل الاعمال الموعود، في أول أيام الأسبوع السادس، بعد ما نفذ صبرها ونقودها واحترقت أعصابها وقضى عليها اليأس، فرحت برايتهما متفائلة بالأحسن. رجل الاعمال ما هو إلا عميل إسرائيلي فراز فلسطيني الأصل واسمه أدم نعمان، أعطاها ملفا به أوراق مكتوبة بالفرنسية وطلب منها ترجمتها إلى اللغة العربية، والملف مكتوب عليه العنوان بالكامل في روما، وحدد موعدا معها لصباح اليوم التالي. أخذت دلال الملف وبدأت في ترجمة النصوص المكتوبة من الفرنسية إلى العربية، فأصيبت بالدهشة والغرابة وهي تترجم النصوص جملة بجملة، النصوص كانت عبارة عن تقارير دقيقة تخص الجيش المصري والقواعد والمطارات والمنشآت العسكرية، وتحليلا مفصلا عن الحالة الأمنية التي تمر بها مصر في تلك الفترة، تقريبا كانت الصورة أو المشهد واضحا أمام دلال ولكنها لم تكترث وقررت مقابلة آدم نعمان. حين وصولها إلى العنوان المنصوص على الورقة تفاجأت بعدم وجود شركة أو مكتب أو حتى مصلحة، العنوان ما هو إلا شقة داخل عمارة سكنية. دخلت دلال الشقة فوجدت آدم نعمان في انتظارها، أول حركة قام بها أخذ منها الملف وبدأ بقراءة الترجمة أمامها إلى النهاية، ثم حدق في عينها قائلا بأن كل الأمور واضحة ولا تحتاج إلى شرح مفصل، فردت عليه بكل احتقار وكراهية رافضة خيانة وطنها، ضحك آدم وقال لها: أي وطن هذا، الوطن الذي يحرم شعبه من ممتلكاته ويهين كرامته ويشرده بعيدا عن أرضه وأهله؟. فقام بالضغط عليها والكبس على نقطة ضعفها والمتمثل في مستقبل أخيها عصام وكيف سيكون إن لم توافق على هذا العرض المغري، مضيفا بأن كل ما يفعله ليس ضد مصر بل ضد النظام الديكتاتوري الحاكم فيها، هذا النظام الذي قضى على والدك وكان سببا في موت أمك وتشردك. حسب الوضع والتأثير الذي تلقته دلال بدى واضحا أنها اقتنعت بكلامه المنطقي ووافقت على عرضه، بل بداخلها رغبة واستعداد كامل للانتقام من النظام الذي قضى على العائلة بأكملها.
الخيانة المشروعة
انتقلت دلال إلى بيت ريفي في ضواحي روما، لتتلقى التدريبات المكثفة واللازمة لأداء عملها كجاسوسة مدربة محترفة في مصر لصالح إسرائيل، بعد ما مرت دلال بمراحل تكوينها والمتمثلة في التجنيد والتأهيل والتدريب تمهيدا لمرحل التنفيذ التي ستكون في مصر وهي أخطر مرحلة في تكوين الجواسيس، لأنها سوف تكون وحيدة بدون حماية وأي خطأ يعني الإعدام. أصبحت دلال مدربة ومستعدة للقيام بدورها، وقبل مغادرتها روما أعطاها مبلغا كبيرا من المال بغية انشاء مشروع مربح يتمثل في فتح محل لبيع الملابس النسائية المستوردة شرط أن يكون في منطقة راقية، هذا المشروع يعطيها الفرص الكثيرة للخروج والدخول إلى مصر دون أن يلاحظ أو يشك بها أحد. كما عرفها على عميلين مهمين جدا في مصر الذين سوف يعملان معها في سرية تامة، ولكونهما يجدان صعوبة كبيرة في أرسال الصور والوثائق إلى روما، فعلى دلال إذن القيام بهذه المهمة، وكل ما عليها فعله، هو استلام أشرطة الميكروفيلم منهما وجلبها إلى روما، وضرب عصفورين بحجر واحد، حيث ظاهريا التبضع في روما وباطنيا تسليم الميكروفيلم للوساد.
عودة دلال رستم كامل إلى مصر
في منتصف سنة 1970م، عادت دلال رستم كامل إلى مصر، وبدأت في البحث عن محل في الأحياء الراقية بالقاهرة، لمباشرة نشاطها كسيدة أعمال ناجحة تستورد الملابس النسائية ومستحضرات التجميل من الخارج.
وبالفعل تم ذلك، وأصبحت سيدة أعمال حقيقية، تستقبل الأوامر وتنفذها بحذافيرها، تستلم الميكروفيلم من العميلين وتسلمه إلى الموساد، أما عصام في هذا الوقت فقد تخرج من الكلية العسكرية والتحق بقوات الصاعقة وتحديدا بمنظمة سيناء العربية، ما لا تعرفه دلال عن أخيها عصام رستم كامل، أنه كان أحد أبطال منظمة سيناء العربية، واستمر عصام في إخفاء هذا الأمر إلى غاية سنة 1971م، في هذا الوقت كان أبطال منظمة سيناء العربية ينفذون أعنف وأشرس العمليات الهجومية الناجحة خلف خطوط العدو، هذه المنظمة البطولية التي بعثرت الكيان الصهيوني وشتتت أفكاره وغيرت مخططاته الدفاعية. فطلب منها أن تجمع قدا كافيا عن هذه المنظمة ونشاطاتها ومخططاتها، وكان ذلك، نفذت دلال كل الأوامر وسافرت بعدها إلى روما لمقابلة آدم نعمان وتسليمه المعلومات الخطيرة التي تخص منظمة سيناء العربية. لرصد تحركات أبطال المنظمة من القاهرة إلى سيناء وطرق نقل الأسلحة. من ضمن هؤلاء الأبطال أخيها عصام، الذي استشهد فيما بعد بسبب المعلومات التي قدمتها دلال للموساد.
لم تتمالك دلال نفسها ودخلت في حالة اكتئاب خطير ألزمها الوحدة مدة طويلة، لدرجة تفكيرها بالانتحار، ينتابها الشعور بالندم ويسيطر عليها شغف الانتقام من اليهود، هذا الشغف المفرط العنيف أعطاها قوة واصرارا لتنفيذ ما تفكر به دون اخبار أحد، فتماسكت وقررت عدم تزويد الموساد بالمعلومات حتى تعرف مسار خطواتها القادمة. في حين المخابرات العامة المصرية على دراية تامة بالتطورات الحاصلة، ولكن لم يتم القبض على شبكة دلال لسبب واحد، أنهم يدركون تماما أن دلال رستم كامل على أتم الاستعداد للتعاون معهم للانتقام لأخيها الوحيد، وهذا الأمر أهم بكثير من القبض عليها وإعدامها، لأن دلال بالنسبة للمخابرات العامة المصرية كنز معلومات يمكن الاستفادة منه.
دلال العميلة المزدوجة
وتوجهت دلال نحو مبنى المخابرات العامة المصرية في سنة 1972م كي تعترف وتسلم نفسها ويرتاح ضميرها، تتوسل إليهم بأن تتم محاكمتها وتعدم لترتاح من تأنيب ضميرها. غير أن رجال المخابرات أعلموها بأنها تحت المراقبة المشددة والدقيقة من مدة طويلة، وأنهم على علم بكل ما تفعله داخل مصر وخارجها.
طلبت المخابرات العامة المصرية من دلال التعاون معهم، أولا لحماية مصر وثانيا لتنتقم بطريقة ذكية وسهلة، فوافقت على الفو وبدأت على الفور بتنفيذ الأوامر والمعلومات دون تدريبات أنها مدربة مسبقا وبطريقة متطورة.
تزود المخابرات العامة المصرية دلال بالمعلومات الخاطئة والمرفقة بالرسومات والتخطيطات، لتسلمها بدورها إلى الموساد، فزادت ثقة السلطات الإسرائيلية بدلال وأصبحت كنز معلومات موثوق به، فطلبت القيادة العسكرية بلسان ضابط الموساد عازر الذي استلم منها معلومات جديدة في روما بدلا عن آدم نعمان، مقابلتها بصفة شخصية وتكريمها في تل أبيب.
بعد هذا اللقاء خرجت دلال كعادتها للتسوق، حيث ابتاعت ما تحتاجه لمحلها وعادت إلى جناحها بالفندق، وجلست وحيدة تفكر في كل الأحداث التي مرت بها، كانت كل الأمور تسير بوتيرتها العادية والطبيعية، غير أن هذه المرة كانت هناك عيون أخرى وهي عيون رجال المخابرات العامة المصرية تحرصها وتراقب من يراقبها من رجال آدم نعمان، وهذا ما جعل المخابرات العامة المصرية تكثف جهودها في انتقاء المعلومات التي تعطيها لدلال، كون فرصة تكريم دلال في تل أبيب لا تعوض للقيام بعمليات خاصة لصالح المخابرات العامة المصرية في إسرائيل. كل ما تسعى إليه المخابرات العامة المصرية هو القبض على الفلسطيني آدم نعمان، وكشف شبكته التجسسية في مصر وبعض البلدان العربية، خاصة وأن دلال في اعترافاتها ذكرت أن لديه علاقات واسعة ومتينة مع بعض رجال المال والأعمال في بعض الدول العربية وأنه يمتلك بيتا في حيفا وأنه كان يراودها مرارا وتكرارا، ولكنها كانت تصده عند كل محاولة.
دلال رستم في تل أبيب
سافرت دلال إلى إسرائيل مع الفلسطيني آدم نعمان بجواز سفر إسرائيلي، وعند انتهاءها من المقابلة الرسمية، منحتها السلطات العسكرية مكافأة تتمثل في مبلغ مالي مغري، ثم أخذها آدم إلى بيته الفخم المبني قرب شاطئ حيفا الأثري، حينها طلبت منه دلال أن يأخذها في رحلة في عرض البحر، فوافق على الفور وانطلقا معا بتنفيذ رغبتها. وأثناء رحلتهما في عرض البحر تفاجأ أدم بوجود قوارب صيد بها مجموعات من الصيادين، الذين كانوا في الأصل رجال منظمة التحرير الفلسطينية بالتنسيق مع المخابرات العامة المصرية، ما هي إلا لحظات وتم تسليم أدم للمخابرات المصرية في المياه الإقليمية، وهو التوقيت نفسه الذي تم فيه القبض على العميلين في القاهرة، حيث اسم الأول جعفر درويش والثاني جميل شاكر.
الحياه تبتسم لدلال من جديد
في مصر وبعد اعترافات الجواسيس الثلاثة، تم الحكم على الجاسوس الأول آدم نعمان بالإعدام شنقا، والعميلين بالأشغال الشاقة المؤبدة، أما دلال فلم يُذكر اسمها بتاتا، واستمرت في إدارة محلها كأي سيدة أعمال مصرية حرة.