من رضيعة ربتها الحمائم إلى أقوى ملكة في التاريخ
ملكة بلاد الرافدين … الأكثر جدلا في العالم
بغداد … ليال حامد
كثيرة هي الحكايات عن هذه المرأة الأسطورة، منهم من قالوا هي زوجة القائد نبوخذ نصار، الذي اهداها الحدائق المعلقة كمهر لزواجهما. فيما قال آخرون هي زوجة النمرود، وهي من بنت تلك الحدائق العجيبة. أما القصة الأشهر والقريبة نوعا ما إلى الحقيقة، أنها كانت زوجة ملك نيناوى شيمسو حداد الخامس أو نينوس . ورغم الاختلاف الظاهر في رواياتها إلا أنها تجتمع وتتحد في ذكر ولادة الأسطورة سميراميس.
ربيبة الحمائم
حسب ما وردت في الأسطورة الآشورية، أن آلهة السماء كتيريسيتو العسقلانية، ولدت بنتا من أحد عبيدها وتخلصت منها بتركها في العراء، فكادت الرضيعة أن تموت لولا مساعدة سرب من الحمام لها، ترف بعضها عليها بأجنحتها لترد عنها حر النهار وبرد الليل. ثم بدأت الحمائم تبحث عن غذاء للطفلة، فاهتدت إلى مكان في قرية مجاورة يضع فيه الرعاة والمزارعون مشغولاتهم من جبن، وحليب، فتأخذ الحمائم منها بمقدار ما تحمل مناقيرها، لتقدمه للطفلة، وحين كبرت صارت الحمائم تطعمها الجبن والحليب معا. وعاشت الطفلة مع حمائمها سعيدة هنيئة لا تعرف طعم الوجع والشقاء.
وتنبه الرعاة إلى جبنهم المنقور وحليبهم المنقوص، فقرروا ترك أحدهم ليراقب المكان، إذ شهد الراعي الحمائم وهي تحط حول الجبن وتلتقط قطعه الصغيرة، وتملأ مناقيرها بالحليب وتطير به إلى مكان ليس ببعيد، فأخبر رفاقه وتتبعوا الحمام ، عندئذ فوجدوا طفلة صغيرة رائعة جمال، فأخذوها، وقرروا بيعها في سوق نيناوى العظيم آنذاك. وحملوا الفتاة في صباح ذات يوم إلى سوق نيناوى وأطلقوا عليها اسم سميراميس، ويعني سرب الحمائم، واتفق أن كان ذلك اليوم هو موسم الزواج الذي يقام كل عام، حيث تجتمع في السوق الكبيرة الشبان والشابات القادمين من كل نواحي المملكة، لينتقي كل شاب عروساً ، أو ينتقي صبية يحملها إلى داره فيربيها إلى أن تبلغ سن الزواج فيتزوجها أو يقدمها عروساً لأحد أبنائه. دخل الرعاة بالصبية الصغيرة الحسناء إلى حيث يعرضونها للبيع. فشاهدهم سيما ناظر مرابط خيول الملك، وكان عقيماً لا ولد له فهتف قلبه إلى سميراميس ورغب في تبنيها. وتمت الصفقة واشتراها سيما وعاد بها إلى منزله. ما أن رأت زوجته الصبية الفائقة الجمال، حتى هللت بفرح عظيم، اعتنت بها وظلت ترعاها حتى كبرت.
وفي يوم كان أونس مستشار الملك نينوس مؤسس نيناوى عاصمة المملكة الأشورية القديمة، يتفقد الجمهور المحتشد بأمر من الملك وإذا بعينه تقع على سميراميس وكانت في عمر مناسب للزواج، فصعق مذهولا من جمالها وبراءتها. تزوج منها بعد الموافقة وأخذها إلى نينوى ليعلن زواجهما رسميا هناك، ويمر العام ورزقا بطفلين توأمين هما هيفاتة وهيداسغة.
الطريق إلى العرش الآشوري
كانت سميراميس فائقة الذكاء أيضا حيث كانت تقدم لزوجها النصائح والمشورة في الامور الخطيرة فأصبح ناجحا في كل ما يقدم عليه. أثناء ذلك كان ملك نيناوى ينظم حملة عسكرية ضد الجارة باكتريا، فأعد جيشا ضخما وكان يدرك صعوبة الاستيلاء عليها. واستطاع أن يسيطر على البلد برمته ما عدا العاصمة باكترا التي صمدت طويلا. شعر الملك بالحاجة إلى أونس وأرسل في طلبه، فسأل أونس ان كانت سميراميس ترغب في مرافقته، فوافقت فورا.
أعدت سميراميس خطة محكمة شرحت فيها للملك كيفية الإطاحة بالعدو، بعدما تابعت سير المعارك ودرستها بعناية، كما وضعت عديد الملاحظات عن الطريقة التي يدار بها الحصار. فانتصر الملك نينوس الذي بات شديد الإعجاب بسميراميس، لما أظهرته من شجاعة ومهارة لحسم المعركة. فجأة أخذ الملك يتمعن في وجهها الساحر وجمالها المدهش، مراقبا إياها أينما ذهبت و حيثما وجدت، فأدرك مباشرة أن قلبه غير قادر على مقاومتها، لذا طلب منها أن تكون زوجته وملكته. ثم عرض على اونس ان يأخذ ابنة الملك بدلا عنها، إلا أن اونس رفض ذلك وبشدة. فهدده الملك بقلع عينيه إن لم يخضع لأوامره، وتحت وطأة الخوف واليأس استسلم أونس لمطلب الملك، غير أنه انتحر بعد فترة وجيزة من زواج زوجته المخلوعة من الملك. وأضحى الملك نينوس يحكم البلاد كلها بمشورتها وتوجيهاتها الحكيمة الصائبة، بعد أشهر معدودة رزقت الملكة سميراميس مجددا بطفل من نينوس وهو نينياس. ولقي الملك بعد ذلك بزمن معتبر من السنين حتفه، إذ أصيب بسهم من ثوار وجواسيس باكتريا أثناء حربه وحصاره لها، ودفنته على ربوة عظيمة مرتفعة من نهر الفرات، واعتلت الأسطورة العرش كملكة لنيناوى عاصمة بلاد النهرين. حينها تنكرت سميراميس بزي ولدها ولي العهد نينياس إذ خدعت العساكر ظانين أنها ولي العهد فخضعوا لقيادتها بل وسيطرتها أيضا.
الملكة الأسطورية
دام حكم الأسطورة سميراميس حوالي الـ 42 عاما، بحيث باتت الحاكمة الناهية المطلقة لمعظم آسيا في ظرف زمني وجيز، ووصلت حتى إلى إفريقيا إذ استولت على إثيوبيا التي كانت آنذاك من أقوى وأعظم الحضرات في العالم وسوف تكون أيضا. لم تكتفي سميراميس بما حققته من نجاحات وفتوحات، بل سعت بثقة وثبات لزيادة سلطتها وهيمنتها بالفتوحات العسكرية والمشاريع العلمية والروحية والعمرانية أيضا. إذ أنشأت مدينة بابل على ربى عظيمة الارتفاع، ناحية قبر زوجها الملك نينوس، بنت عليها قصرين هائلين وصلت بينهما بنفق سري، كما شيدت حواجز عملاقة طولها 60 كيلومترا لحماية المدينة من فيضانات النهر المتكررة والاعتداءات الخارجية.
كانت سميراميس واسعة الذكاء الحيلة والمكائد في فتوحاتها وحملاتها العسكرية، وشديدة القسوة مثل الملوك الآشوريين الذين سبقوها، لينتهي عهدها وهي تحكم كل ما ذكرناه سابقا ناهيك عن الأناضول ووسط آسيا أيضا.
ماتت سميراميس عن عمر ناهز الـ 62 عاما، وعند محاولة دفنها مثل باقي البشر، اجتمعت الحمائم كما ورد الأسطورة، وحملت حسدها متجهة إلى السماء.
انجازات الملكة الأسطورية
من أعظم الإنشاءات التي شيدتها الملكة الأسطورة سميراميس، ضريح زوجها الملك نينوس، إذ يعد أكبر وأفخم بل وأضخم ضريح في الدنيا، تمجيدا لذكراه، فضلا عن براعتها في تشييد الجسور والقنوات على نهري الدجلة والفرات، ناهيك عن انشاء وخلق مدن جديدة ومتطورة على بلاد الرافدين وأسيا وحتى أثيوبيا والأناضول معا.
من أهم أعمالها، اختراع حزام العفة لمنع الشعب من الدعارة، كما أخضعت مصر والحبشة للإمبراطورية، وإقامة جسر التعاون بين مملكتها وبلاد السند، ولكنها لم يستمر التعاون طويلا، وباء بالفشل الذريع. وتقول الأسطورة أنها هي من بنت مدينة بابل الخالدة، ليشهد التاريخ على عصرها المتوج بالإنجازات في جميع مجالاتها، واستخدمت في إنجاح مشاريعها الخالدة أكثر من مليوني عامل ومهندس وخبير من جميع أنحاء العالم، بحجة تنوع الأجناس والكفاءات والأدمغة والثقافات يؤدي حتما إلى حضارة مزدهرة خالدة.
سميراميس أسطورة تاريخية تغنت بها أوروبا
فرضت سميراميس بقوتها وذكاءها وجمالها وانجازاتها الخالدة، حضورها على كتب الأدب والتاريخ، تغنى فيها أدباء وشعراء وموسيقيين شرقيين وغربيين، لتطغى الأسطورة الملكة على عقول وقلوب ملكات أوروبا، إذ أطلق اسم سميراميس على الملكة مارغريت، ملكة بلاد اسكندنافيا، التي حكمت بين عامي 1350م /1412م , ناهيك عن الملكة كاثرين الثانية قيصرة روسيا، التي حكمت بين عامي 1729م/1769م. كما تأثر فنانون معاصرون بسميراميس بداية بـ دانتي مقتبسا سيرتها في كتابه الكوميدية الإلهية. والفيلسوف فولتير الذي ذكرها في مسرحياته مرات عدة، كما ظهرت في عدة مسرحيات وأفلام وثائقية وتلفزيونية وسينمائية أهمها فيلم 1973م الذي أنتجته هوليوود تحت اسم سميراميس. فضلا عن إطلاق سلسة فنادق عالمية ضخمة موزعة فروعا في أرجاء العالم على اسمها تخليدا لها،
سميراميس هي أكثر الشخصيات التي تضاربت المصادر التاريخية حولها، بداية من ميلادها إلى وفاتتها، حيث تذكر بعض المصادر أن ابنها نينياس هو من قتلها ليعتلي العرش بعدها، بحجة تخليص الشعب من جبروتها وهيمنتها وظلمها. كما ربط بعض المؤرخين اسمها بالملكة سمورامات التي كانت الوصية الوحيدة على عرش الإمبراطورية الآشورية بين عامي 806/811 قبل الميلاد. أكد البعض الآخر أن الإغريق هم من حرفوا اسم سميراميس إلى سمورامات لتشويه سمعتها والتقليل من هيبتها وانجازاتها. وتظل سميراميس رغم الأساطير حقيقة الملكة التي عشقها التاريخ، والتي حكمت آشورالـ 42 عاما. مدة كلها نجاحات متتالية,