ذبيحة ظروف قاسية أم زوجها الفلسطيني
القاهرة … مينا ميخائيل جرجس
بعد طول عذاب وصراع فظيعين مع الأمراض المزمنة، إن لم نقل جميعها وفقدان هوية استمرار الانسان في وجوده ناهيك عن الاكتئاب المزمن الذي رافق انشراح ساعة ما حلت بإسرائيل، توفيت الجاسوسة الإسرائيلية المصرية الأصل انشراح موسى والتي أصبحت فيما بعد دينا بن ديفيد عن عمر ناهز الـ 84 عاما بتل أبيب، ودفنت في تل أبيب على الشريعة اليهودية وذلك بعد أشهر قليلة فقط من وفاة نجلها رافي بن ديفيد متأثرا بمرض السرطان.

انشراح موسى … من تكون؟
انشراح موسى هي إحدى الجاسوسات اللاتي عملن لحساب إسرائيل فترة حرب يونيو/حزيران 1967، ونجحت المخابرات المصرية في إلقاء القبض عليها وعلى زوجها ابراهيم شاهين وأولادها الثلاثة نبيل ومحمد وعادل عقب حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
ولدت المصرية انشراح على موسى عام 1937 لأسرة متوسطة الحال، وبرغم التقاليد المتزمتة في ذلك الوقت، دخلت الفتاة الجميلة السمراء الصعيدية المدرسة وواصلت تعليمها حتى حصلت على الشهادة الإعدادية بتفوق عام 1951.
ولدت المصرية انشراح على موسى عام 1937 لأسرة ميسورة الحال، وبرغم التقاليد المتزمتة في ذلك الزمان، إلا أن الفتاة الجميلة السمراء الصعيدية دخلت المدرسة وواصلت تعليمها حتى حصلت على الشهادة الإعدادية بتفوق سنة 1951.
كانت انشراح ذات وجه مليح وعينان نجلاءان. وجسد دبت به معالم الأنوثة وخرطته بإحكام مبدع فبدت وكأنها أكبر كثيراً من سنها. مما لفت الأنظار اليها واخترقتها سهام الباحثين عن الجمال. فكانت تقابل تلك النظرات بحياء فطري غلف ملامحها مما أزادها جمالاً فوق جمال. وبعد نجاحها بأيام قليلة أراد والدها مكافأتها فرافقته إلى القاهرة لحضور حفل زفاف أحد أقاربه، لتلتقي الفلسطيني إبراهيم سعيد شاهين ابن العريش المولود عام 1929، الذي ما غادر الحفل إلا وعرف عنها كل شيء. وأيام قلائل حتى فوجئت به يطرق باب بيتها في المنيا برفقته والده. وبرغم رفض والدتها بحجة بعد المسافة بين المنيا والعريش، وانزعجت الفتاة الصغيرة من اعتراض والدتها في أمر زواجها، باكية بحرقة وهي ترى أحلامها الوردية تكاد أن تحقق. ثم سرعان ما تنهار في الوقت ذاته، إلا أنها تمسكت به بشدة، عندما ساعدها والها على إتمام الزواج من إبراهيم وطارت انشراح الحالمة من السعادة وحلقت بين السحب بخيالها تستطلع مستقبلها المزهر والمشع بالهناء، فمنذ رأته في الحفل انغرس حبه بها. وباتت ليال طويلة كلها سهد تحلم به وتترقب الليل لتسرح معه طويلاً. وتطوف مع نظراته الحانية في عوالم الأمل والرجاء. وخلال مدة قصيرة تزوجا وانتقلت للعيش معه في العريش.
وفي أواخر عام 1955 رزقا بمولودهما البكر نبيل، ثم الثاني محمد عام 1956، ثم الثالث وأخر العنقود عادل في 1958، فعظم حبه إبراهيم لانشراح، كونها ملأت عليه الدنيا بهجة، وهكذا سارت بهم الحياة في دروب السعادة إلى أن حلت عليهم النكبة في أكتوبر/ تشرين الثاني عام 1966. إذ ضبط إبراهيم يتلقى الرشوة وحبس ثلاثة أشهر، فأرسلا بأولادهما الى عمهم بالقاهرة ليواصلوا الدراسة هناك، وليعيشوا حياة رغدة بعيداً عن مظاهر البادية وظروف الحياة الأقل حظاً من العاصمة، وخرج بعدها ليكتشف مدى قسوة الظروف التي تنتظره.

وعاشت انشراح حياه التقشف والحرمان المادي مع إبراهيم وألادها الثلاث، وسقطت سينا في يد إسرائيل في يونيو/ جوان/ حزيران سنة 1967 ، في عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وأغلقت فجأة أبواب السبل أمام السفر الى القاهرة. . فتأزمت انشراح نفسياً قلقاً على أولادها، وكانت كلما نامت تراهم في المنام يستغيثون بها فتصرخ وتستيقظ، هكذا ظلت انشراح تبكي طوال الليل ومعظم النهار حتى قارب عودها على الذبول، وأوشك جمالها أن ينطفئ، ووجد إبراهيم أن الحياة في العريش كما لو كانت في الأسر، فالحزن يخيم على البيت الذي ما عرف إلا الضحك والفرح، والمعيشة أضحت في أسوأ حال، فمنذ الغزو وهو عاطل عن العمل لا يملك المال الذي يشتري به حتى أبسط الأشياء، كالشاي والرغيف، إذ يعد الشاي عند البدوي ضرورة حياتية أساسية، فعوضه إبراهيم بعشب بري يعرف بالمرمرية مذاقه طيب، وأصبحت المرمرية مشروباً مستقلاً في بيته بعدما كانت وريقاتها تضاف الى الشاي كأوراق النعناع.
وهنا كانت بداية النهاية والصعود إلى الهاوية. وسط هذا المناخ كانت المخابرات الإسرائيلية تعمل بنشاط زائد، خاصة على اصطياد عملاء جدد وتجنيدهم ، فكان الموساد يستغل الضغوط المعيشية، الصعبة وظروف الاحتلال، فاختنقت نفوس الأهالي برغم اتساع مساحات الأرض والجبال، ولكونهم ذوي تقاليد بدوية ومحبين للحركة والتجوال والتنقل، أحسوا بثقل الأمر عليهم ولم رافضين كل ما يصادفهم من صعاب، أما التصاريح التي كان يمنحها الحاكم العسكري الإسرائيلي لا تتم بسهولة، والسفر الى القاهرة بات معجزة، وضاقت الحياة باتساعها على إبراهيم وانشراح في العريش، وخلص الطعام والشراب، فازداد الزوجان يأساً وبؤسا وشوقاً الى الأبناء في العاصمة، وأمام البكاء الهيستيري المستمر اندفع ابراهيم الى مكتب الحاكم العسكري يطلب تصريحاً له ولزوجته بالسفر الى القاهرة. ولما ماطلوه كثيراً بوعود كاذبة، صرخ في وجه الضابط الاسرائيلي قائلاً إنه فقد عمله ودخله ولا يملك حتى قوت يومه، فطمأنه الحاكم العسكري ووعده بالنظر في أمره في أسرع وقت، وبعد حديث مطول بينهما حاول ابراهيم خلاله التقرب إلى الحاكم العسكري بغية إنجاز التصريح فقط لا غير، ففوجئ بالحاكم العسكري يأمر العساكر له بكيس كبير من الدقيق وبعض أكياس الشاي والسكر والبن، فحملها إبراهيم فرحاً الى زوجته وهو يبشرها بالسفر الى القاهرة قريبا.
استبشرت انشراح خيراً وغمرتها السعادة بما جاءها به، وغاصت في أحلامها وتخيلاتها باللقاء الحميم مع أكبادها، لكن الأيام تمر والحاكم العسكري يعد ولا يوفي، ويعود إبراهيم في كل مرة محبطاً، لكنه كان يحمل معه دائماً أكياس المواد التموينية التي أصبحت هي المصدر الوحيد للإعاشة، ولولاها لمات جوعاً هو وزوجته، وذات صباح فوجئ بمنحه تصريح السفر له و لزوجته. بشرط أن يكون متعاوناً ويأتيه بأسعار الفاكهة والخضروات في مصر والحالة الاقتصادية للبلد بواسطة أخيه الذي يعمل بالاستيراد والتصدير، ورحب إبراهيم بالمبادرة وأكد للحاكم العسكري قدرته على القيام بذلك، مضيفا انه يمكن تزويده أيضا معلومات عن أسعار السلع الاستهلاكية والبقالة والسمك، ولو أنهم أرادوا أكثر من ذلك لفعل.
عندئذ، وضحت الرؤية للحاكم العسكري، فقد نجح ابراهيم شاهين في الاختبار الأول، وكان عليه أن يتصرف معه حسبما هو متبع، ويحيله الى الضابط المختص لإكمال المهمة، فدوره ينحصر فقط في الفرز لا أكثر.وبالفعل نجحت الموساد في استقطاب ابراهيم شاهين وتعرف على الحاكم الإسرائيلي في سيناء، حيث كان الانتقال من العريش للقاهرة يتطلب موافقة السلطات الإسرائيلية، وكان شاهين يرغب في الذهاب إلى القاهرة للاطمئنان على أبنائه الذين كانوا يعيشون لدى شقيقه أثناء فترة الدراسة فضلا عن أنه كان يذهب لمكتب الحاكم العسكري الإسرائيلي لطلب الطعام.
فتم استدراج ابراهيم شاهين، بعد التعارف وتبادل الزيارات بينه وبين الحاكم الإسرائيلي وصاروا أكثر من مجرد أصحاب، إذ قدم له ضابط الموساد الذي جنده إغراءات وتعهد بتأمين الحياة له ولأسرته في العريش، ناهيك عن منحه مبالغ طائلة، فوافق إبراهيم على التعاون مع الإسرائيليين في جمع المعلومات عن مصر، وتسلم كدفعة أولى ألف دولار في الوقت الذي لم يكن يملك فيه ثمن رغيف حاف.
وعندما رجع إبراهيم إلى بيته محملًا بالهدايا والمؤونة لزوجته وأولاده، دهشت انشراح وسألته عن مصدر النقود فهمس لها بأنه أرشد اليهود عن مخبأ فدائي مصري فكافأوه بألف دولار، بهتت الزوجة البائسة لأول وهلة ثم سرعان ما عانقت زوجها وهي فرحة بما جلبه لها، وقالت له في امتنان كانوا سيمسكونه لا محالة عاجلًا أم آجلًا، فسألها في خبث ألا يعد هذا خيانة؟ فغرت فاها وارتفع حاجباها في استنكار ودهشة وأجابته: مستحيل، كان غيرك سيبلغ عنه ويأخذ الألف دولار، أنت ما فعلت إلا الصح، حينها قررت انشراح مساعدة زوجها بل وأكثر من ذلك وأكدت أيضا رفقته فيما هو آت.
أيام قليلة ويسافر الزوجان إلى بئر سبع وهناك تغير المشهد، إذ تحولا الاثنان إلى جاسوسين لإسرائيل، وتلقى الزوجان تدريبات على استخدام الحبر السري والرسائل المشفرة، كما تم تزويدهما بأحدث الكاميرات لتصوير المواقع العسكرية، كما تلقيا تدريبا متقدما على تمييز مختلف الأسلحة والمعدات العسكرية وأنواعها. وبات ابراهيم وانشراح يحملان مبدئيا في الاستخبارات الإسرائيلية الموساد الاسمين المستعارين موسى حاييم ودينا حاييم.
الانتقال إلى القاهرة
انتقل الزوجان بعدها إلى القاهرة مع أبنائهما الثلاثة، ضمن العائلات التي نُقلت من سيناء فراراً من الحرب، عن طريق الصليب الأحمر، واستقرت الأسرة في حي الوايلي الشعبي، وهناك بدأ في تكوين شبكة من العلاقات المتشعبة لتصبح أساس معلوماته الاستخباراتية لصالح إسرائيل، فبحث دائماً عن مصادقة ضباط الجيش والشرطة وأقاربهم وتحجج للتقرب منهم، وافتتح مشروعاً تجارياً للأجهزة الكهرومنزلية المستوردة، ليكون الواجهة التي يتحرك من خلالها. لم يتوقف الأمر إلى هذا الحد، بل قام الزوجان بتجنيد الأبناء الثلاثة الذين عملوا على مصادقة أبناء الضباط لمعرفة مواعيد ومواقع عمل آبائهم. وهكذا انخرطت الأسرة كلها في التجسس. . وأصرت انشراح على الانتقال من الحي الشعبي الفقير الى آخر يكون أكثر رقياً وثراء، وعندما عارض زوجها، حينها أقنعته بضرورة الإحساس بمتاع حياة الدنيا.
انتقلت العائلة الى منزل فاخر بمدينة نصر، ونقل نبيل ومحمد وعادل مدارسهم الى الحي الراقي الجديد.
احتفظ ابراهيم شاهين بعلاقاته القديمة وأقام أخرى جديدة، وامتلأ البيت مرة أخرى بالأصدقاء من رجال الجيش والطيارين، وتحول أولاده الى جواسيس صغار يتنافسون على جلب المعلومات من زملائهم أبناء الضباط في المدارس والشوارع ومناوبة الحراسة ريثما ينتهي أباهم من تحميض الأفلام. نبيل مثلا كان يتولى المراقبة من الخارج، وعادل من داخل البيت، وحصل نبيل على أدوار أكثر جدية و هامة، فكان يسمح له بكتابة الرسائل بالحبر السري وتظهيرها وصياغة التقارير وتحميض الصور.
ونجح فعلا الزوجان في إرسال معلومات مهمة للجانب الإسرائيلي، منها معلومات عن تحرك الفريق عبد المنعم رياض رئيس أركان الجيش المصري تم استخدامها في اغتياله عام 1969،.
عرض في سهرة من سهرات الليالي التلفزيونية. فيلم تسجيلي عن أحد الجواسيس الذي انتهى الأمر بإعدام شنقاً، انتاب العائلة حالة صمت رهيب تضج بالرعب والفزع. امتنعوا خلالها عن كتابة التقارير أو الرسائل، ومرض ابراهيم إثر ذلك واضطرت انشراح للسفر بمفردها الى روما تحمل العديد من الأفلام، خبأتها داخل مشغولات خشبية.
كانت تلك الرحلة ضرورية للخروج من أزمتها النفسية السيئة، وفي الوقت نفسه لتطلب التوقف عن العمل مع الموساد، فلما التقت بضابط الموساد، شرحت له السبب ومعاناتهم وحجم الخوف المسيطر على أعصابهم؟،فطمأنها الضابط ووعدها بعرض الأمر على الرئاسة في تل أبيب، وصحبها الى ناد ليلي فرقصت وشربت لتنسى همومها، بعدها عادت الى القاهرة تحمل آلاف الدولارات.
القبض على العائلة الجاسوسة

تمكنت أجهزة المخابرات العامة المصرية من رصد ذبذبات جهاز التجسس الإسرائيلي بالاستعانة بمعدات سوفياتية متطورة، وبعد تحديد موقعه وتكثيف البحث تم التعرف على موقع الإرسال في منزل الجاسوسين، وفي أغسطس / آب 1974 تم القبض على إبراهيم شاهين، في الوقت الذي كانت فيه زوجته انشراح في روما لمقابلة أحد ضباط الموساد. فتحفظت المخابرات العامة المصرية على أبناء انشراح الثلاثة، وحققوا مع زوجها الذي أدلى باعترافات تفصيلية عن كل مهامه ومعاملاته مع الموساد، حتى عادت انشراح بعد أيام من القبض عليه إلى القاهرة، لتفاجأ بضباط المخابرات المصرية ينتظرونها داخل منزلها للقبض عليها، لتدلي باعترافات تفصيلية أمام جهات التحقيق.
المحاكمة

حكم على انشراح موسى، وزوجها إبراهيم شاهين وأبنائهما بتهمة الخيانة العظمى والتجسس لصالح إسرائيل، وقررت المحكمة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1974 إعدامها وزوجها، وحكم على نجلهما الأكبر نبيل بالحبس 5 سنوات، بينما تم إيداع نجليهما محمد وعادل في دار الأحداث لأنهما لم يتجاوزا الـ 18 عاماً.
نفذ حكم الإعدام في إبراهيم، وتم تأجيل تنفيذ الحكم بحق انشراح، وقضت نحو عامين في السجن ثم أصدر الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات قراراً بالعفو عنها لتعول أولادها، استجابة لالتماس تقدمت به انشراح وأولادها الثلاثة، في يناير/ كانون الثاني عام 1977، وتم تسليمها إلى إسرائيل.
ما إن وصلت إلى إسرائيل سنة 1977، اعتنقت انشراح وأبناؤها الثلاثة الديانة اليهودية، وغيرت انشراح اسمها إلى دينا بن ديفيد، كما أطلق على عادل اسم رافائيل أو رافي، ونبيل اسم يوشي، ومحمد اسم حاييم. وسافر أحد الأبناء للبرازيل مع زوجته الإسرائيلية، بينما عاش الآخران مع انشراح في إسرائيل، وافتتحوا مطعما للأسماك.