حلب … ميرنا خليل
لطالما كان يظن أن الأم لا تكذب أبدا، غير أنه أدرك فيما بعد بان ظنه خاطئ، بعدما كذبت عليه أمه ثماني أكاذيب متتالية.
بدأت القصة عند ولادة مصطفى، فكان الابن الوحيد في أسرة تأكلها يرقات الفقر، فلم يكن لدى العائلة من الطعام ما يكفيهم، وعندما كانوا يأتون بأرز قليل ليسدوا به جوعهم. كانت الأم تعطيه نصيبها. وبينما كانت تحوِّل الأرز من طبقها إلى طبق ابنها الوحيد، بحجة أنها ليست جائعة وكانت هذه كذبتها الأولى.
وعندما صار مصطفى صبيا، كانت أمه تذهب للصيد في نهر صغير بجوار المنزل، لتأتي له ولو بسمكة واحدة يسد بها جوعه. وفي مرة من المرات استطاعت بفضل الله أن تصطاد سمكتين، أسرعت إلى البيت وأعدت الغذاء ووضعت السمكتين أمام ابنها مصطفى، فبدأ الصبي بتناول السمكة الأولى شيئا فشيئا، وكانت أمه تتناول لا تأكل سوى ما تبقى من اللحم حول عظام وشوك السمكتين، فاهتز قلبه لذلك ووضع السمكة الأخرى أمامها لتأكلها أمه، فأعادتها أمامه فورا وقالت له تناولها أنت يا قرة عيني، فأنا لا أححب السمك كثيرا. وكانت هذه كذبتها الثانية.
كبر مصطفى، وكان لابد أن يلتحق بالمدرسة ككل الاطفال، ولم يكن مع أمه من المال ما يكفي مصاريف الدراسة، فذهبت أمه إلى السوق واتفقت مع موظف بأحد محال الملابس أن تقوم هي بتسويق البضاعة بأن تدور على المنازل وتعرض الملابس على السيدات، وفي ليلة شتاء ممطرة، تأخرت الأم في العمل وكان الولد في أنتظرها بالمنزل، خرج يبحث عنها في الأزقة الضيقة المجاورة، فوجدتها تحمل البضائع وتطرق أبواب البيوت، في ليلة شتائية ممطرة، فطلب منها العودة حالا إلى المنزل، بحجة الوقت المتأخر والتعب الشديد الواضح في ملامحها، كما أنها تستطيع إكمال عملها في الغد. فابتسمت الأم وقالت له بأنها على ما يرام ولا تشعر بالتعب. وكانت هذه كذبتها الثالثة.
وجاء يوم اختبار آخر العام بالمدرسة، أصرت أم مصطفى على الذهاب معه ودخل هو قاعة الاختبار ووقفت هي تنتظر خروجه في حرارة الشمس الصيفية المحرقة، وعندما دق الجرس وانتهى الامتحان خرج مصطفى لها فاحتضنته بقوة وبشرته بالتوفيق من الله تعالى، ففاجأته بكوب عصير المشمش، كانت قد اشترته له كي يتناوله عند خروجه من اختباره، فشربه من شدة العطش حتى ارتوى. نظر مصطفى إلى وجهها فلاحظ العرق يتصبب منها، فأعطاها الكوب على الفور وتوسل إليها بأن تشربه، فرفضت الأوم لتوها مبررةبعدم شعورها بالحرارة والعطش. وكانت هذه كذبتها الرابعة.
بعد وفاة الأب كان على الأم أن تعيش حياة الأم الأرملة الحزينة الوحيدة، وصارت مسؤولية البيت تقع عليها وحدها، لتكون الحياة أكثر فقرا وتعقيدا. وصارا الاثنان يكافحان الحاجة والجوع، كان عمه صالحا طيبا، وكان يسكن بجانب منزلهما، حيث كان يرسل لها من حين إلى آخر ما يسدان به جوعنهم، لاحظ الجيران حالتها تتدهور من سيء إلى أسوأ، فنصحوا الأم بأن بالزواج من جارهم الأرمل الوحيد والمقتدر، لينفق علينهما، بحجة أنها جميلة ولا تزل تتمتع بقوام امرأة شابة. ولكنها رفضت الزواج، كونها لسيت بحاجة إلى رجل ينفق عليها وعلى ابنها. وكانت هذه كذبتها الخامسة.
انتهى مصطفى الشاب الوسيم من الدراسة، وتخرج من الجامعة بتفوق، لأجل امه. حصل بالكاد على وظيفة إلى حد ما جيدة، واعتقد أن هذا هو الوقت المناسب لكي تستريح أمه وتترك له مسؤولية الإنفاق عليها وعلى المنزل، خاصة وأن المرض بدأ ينهش حيويتها. حيث لم يعد لديها من الصحة ما يعينها على أن تطوف بالمنازل والديار، فكانت تفرش فرشا في السوق وتبيع الخضروات كل صباح فلما رفضت أن تترك العمل خصص لها جزءا من راتبه، فرفضت أن تأخذه بحجة أن لديها ما يكفيها من المال.
وكانت هذه كذبتها السادسة.
بجانب العمل واصل مصطفى دراسته كي يحصل على درجة الماجيستير، وبالفعل نجح وارتفع راتبه وزاد، ومنحته الشركة الألمانية التي يعمل بها فرصة العمل بالفرع الرئيسي لها بفرانكفورت، فشعر حينها بسعادة بالغة، وبدأ يحلم ببداية جديدة وحياة سعيدة، بلا خوف ولا جوع. وسافرت مصطفى وهيأ الظروف المناسبة ليستقبل أمه في فرانكفورت وتعيش معه هناك، لكنها رفضت بحجة أنها ليست معتادة على المعيشة المترفة، وأنها سعيدة في سوريا وحالتها الصحية والمادية في أحسن حال. وكانت هذه كذبتها السابعة.
كبرت الأم وأصبحت في سن الشيخوخة، وأصابها مرض السرطان، وكان يجب أن يكون بجانبها من يمرضها ويعتني بها، ولكن ماذا يفعل فبين الابن والأم الحبيبة بلدان كبيرة وكثيرة، فترك مصطفى كل شيء وذهب لزيارتها في منزلهم، فوجدها طريحة الفراش بعد إجراء عملية جراحية لاستئصال المرض الخبيث، فعندما رأته حاولت أن تبتسم له ولكن قلبه كان يحترق، لأنها كانت هزيلة جدا وضعيفة، ليست أمه التي يعرفها، انهمرت الدموع من عينيه ولكن أمه حاولت أن تواسيه فقالت له: لا تبكي يا ولدي فأنا لا أشعر بالألم لإطلاقا. وكانت هذه كذبتها الثامنة
وبعدما قالت له ذلك، أغلقت عينيها، ولم تفتحهما بعد ذلك أبدا.