شفيقة القبطية … قصة أشهر راقصة عرفتها الدنيا
من أعالي المجد إلى هاوية الذُل
القاهرة … برلنتي عبد العزيز
كانت فتاة جميلة رشيقة خجولة ومتدينة، عرفت بالتزامها وانتظامها المسطر في الذهاب إلى كنيسة سانت تريزا بحي شبرا في القاهرة للصلاة وحضور القداس. إلى أن ملَكها شعور غريب وهي في سن الـ الثانية عشر غير مجرى حياتها، شعور أدركت من خلاله بأنها تتقن فن الرقص الشرقي، وقادرة على تغيير مسار حياتها من دنيا القيود والالتزامات والأعراف إلى عالم الحرية والمجد والثراء والشهرة. فتهافت عليها رجال الدنيا وتناثرت تحت أقدامها الجنيهات الذهبية ونافست الخديوي إسماعيل في الشهرة والثراء. فمنذ العصر العباسي لم يشهد تاريخ الفن العربي كله راقصة تعدت الشهرة والمجد والثراء مثل الذي وصلته بطلة هاي القصة كلها شفيقة القبطية.
ميلادها ونشأتها
ولدت شفيقة من أسرة مسيحية قبطية متدينة ميسورة الحال، في سنة 1851م في أحد بيوت حي نخلة بمنطقة شبرا في القاهرة، في مرحلة معينة من حياتها كانت شفيقة القبطية الطفلة الجميلة المتدينة شديدة الالتزام والانتظام في الذهاب إلى كنيسة الحي سانت تريزا للصلاة والتضرع وحضور القداس. وكان الجيران والمارة في حي نخلة ينتظرون بشوق مرور تلك الفتاة الرشيقة الجميلة.
بداية المشوار
في سن العشرين وتحديدا في سنة 1871م، كانت للصدفة الدافع الشديد القوي في دخول شفيقة القبطية عالم الرقص، وكان ذلك في أحد الأعراس القبطية العريقة، الذي لبت دعوته عائلتها، وأحيته الراقصة الشهيرة آنذاك شوق بأجمل الوصلات الاستعراضية الراقصة، كانت شوق آنذاك الوحيدة من بين كل راقصات مصر التي يسمح لها ان ترقص في حفلات العائلات الكبيرة والمحافظة وفي حفلات واحتفالات الدولة العثمانية وحفلات الخديوي إسماعيل أيضا، كما كان لها كذلك شرف الرقص في حفل افتتاح قناة السويس.
خلال استراحة الراقصة شوق وهذا بعدما أنهت وصلتها الاستعراضية الأولى، قامت الفتيات بتوجيه دعوات الرقص للفتيات للمدعوات كما هو معتاد في الأعراس بصفة عامة، فظهرت بينهن شفيقة الفتاة السمراء الجميلة، ممشوقة القوام، فجذبت الأنظار والاعجاب إليها ودخلت العقول والقلوب برقصتها وكأنها فراشة تهيم فوق بساتين الزهور، لم تتمالك شوق نفسها من شدة الاعجاب والدهشة وراحت تحضن شفيقة بقوة وتقبلها ودعتها لمشاركتها وصلات رقصها المتبقية. فما كان ردة فعل والدة شفيقة الا أن نهرتها وأبعدتها عن الراقصة وغادرت العرس مع لبنتها وهي كلها قلق وغضب، لأن عائلتها ملتزمة دينيا ومحافظة ولا يجوز التصرف باستهتار.
بدأت شفيقة بِتعلُم مبادئ الرقص الأساسية في سرايا الراقصة شوق بشارع محمد علي، تذهب إليها ثلاث مرات في الأسبوع بشكل منتظم، دون علم عائلتها، متخذة الصلاة والقداس والتضرع حجة كي لا يتم استجوابها والتحقيق معها. إلى أن جاءت اللحظة الفارقة في حياة شفيقة التي قررت فيها ترك بيت الأسرة عدم الرجوع إليه، والاستقرار في سرايا شوق.
قسيس القديسة تيريزا يبحت عن شفيقة
ستة أشهر والعائلة في بحث مضنٍ مستمر عن شفيقة إلى أن جاء اليوم الذي بعثت فيه برسالة إلى والدتها لتطمئن عليها، ومن العنوان المدون على تلك الرسالة، أرسلت إليها قسيس كنيسة القديسة تيريزا لكي ينصحها بالعودة إلى بيت العائلة والرجوع عن قرارها والتضرع إلى الله ليغفر لها ذنوبها، وهذا بعد محاولات كثيرة قامت بها والدتها لإقناعها بالرجوع إلى رشدها والعودة إلى البيت، ولكنها وبكل ما لديها من قوة رفضت وابتعدت أكثر عن محيطها، ما جعل أهلها يتبرؤون منها وإلى الأبد، فمنعوها وحرموها من كل حقوقها ما خلى شفيقة ترفق اسمها بالقبطية اعترافا بأصلها وتيمنا به.
شفيقة تجني الشهر والمجد
عاشت شفيقة في سرايا شوق كأميرة مدللة، متمتعة بسهرات الطرب والرقص وليالي الأنس، كانت تسافر معها إلى كل مكان، تعرفت على أسياد المجتمع ونخبته، إلا أن ساعات الفرح كانت بخيلة معها نوعا ما، إذ توفيت شوق إثر مرض عانت منه مدة تزيد عن ستة أشهر، فخيم الحزن على شفيقة ونسج خيوطه في كل ركن في السرايا، لتستلم شفيقة راية شوق بعدها وتكمل المشوار ولكن بطريقتها الخاصة.
تربعت شفيقة على عرش الرقص والفن، أصبح اسمها لامعا مشرقا في كل مكان، لدرجة أن اسرتها أصبحت تتباهي وتفتخر بها، وسعى خلفها أصحاب الملاهي بغية العمل معهم، ألتف حولها رجال المال والأعمال من كل حدب وصوب، ووضع كل رجل معجب ثروة ضخمة تحت أقدامها، وعندما كانت تقف شفيقة على خشبة المسرح لترقص، كانت الجنيهات الذهبية تتساقط فوق أقدامها مثلما تتساقط حبات المطر فوق بحيرة جليدية، غير مكترثة بما كان يدور حولها، كانت فقط تقدم وصلاتها بجدية وبكل ما تملك من أرقى وأنبل الأحاسيس.
شفيقة في فرنسا ودول أخرى
سافرت شفيقة القبطية إلى فرنسا بدعوة رسمية من أحد رجال المال والأعمال الفرنسيين بالتعاون مع متعهد حفلات، أين حققت نجاحات متوالية باهرة في باريس وبعض مدن فرنسا الكبرى، نالت جوائز كثيرة، أهمها جائزة فرنسا للمعارض الدولية في باريس، وعادت شفيقة الى مصر لجَني المزيد من الثراء والمجد، بعدما صقلت باريس ذوقها ورشاقتها وأسلوبها في الحياة لتزداد رقيا وأناقة وجمالا، فباتت ملابسها وأكسسواراتها صيحة وحلم كل سيدات مصر، حينها أطلقت عليها الصحافة المصرية لقب الراقصة العالمية وملكة الأناقة والرقص الشرقي، كما لبت دعوات زياراتها إلى ايطاليا واسبانيا وبلاد الشام وتركيا وآسيا وليبيا وتونس والجزائر والمغرب لإحياء الحفلات والاحتفالات والافراح هناك.
شفيقة القبطية أغنى سيدة في مصر
لقد تعدت شفيقة ذروة الشهرة والثراء والمجد، ما جعلها تعيش مثل الأميرات وربما أكثر، وأصبحت أول سيدة في مصر تمتلك قصرا بكل كمالياته وعربات الحنطور أيضا، حيث كانت تمتلك ثلاث عربات وهي التينو والكومبيل والفيتون، كل عربة منها يجرها أربعة خيول عربية أصيلة. أحبها كل الناس لعطفها وطيبتها ومساعدتها للمحتاج ومساندتها للمظلوم. من مظاهر الثراء التي كانت تعيشه شفيقة، أنها كانت تستخدم أجمل الشباب الإيطاليين كخدم، وتفصل لهم ملابسهم عند أشهر المصممين الأجانب في مصر وهما كلاكوت ودايفز براين اللذين كانا مخصصين فقط للوزراء والأمراء وأسياد المجتمع. وإذا انتقلت من بلد إلى بلد آخر حجزت صالوناً خاصاً في القطار لها ولحاشيتها وخدمها. بذخ شفيقة في الإنفاق كان غير عادي بل غير طبيعي، رغم إسرافها وكرمها المفرطين، إلا أنّها استطاعت أن تجمع ثروة ضخمة وطائلة، فكانت تملك عدة دور في حي باب البحر، وأخرى في حي شبرا، وحارة السقايين وعدة قصور كانت تعيش فيها.
من هم عشاق شفيقة القبطية؟
عشاق شفيقة كثيرون، ولكن أشهرهم كانا شابان من أغنى أغنياء مصر، أحدهما كان ينفق من ثروته مئات الألاف من الجنيهات لإرضائها إلى أن تبددت ثروته دون أن يظفر من شفيقة شيئا سوى نظراتها الساحرة وابتساماتها المُغرية، وأما الشاب الآخر فكان أكثر ثراءً من الأول حيث كان دخله يتعدى الـ 300 جنيه ذهبي في اليوم الواحد، بلغ إعجاب هذا الثري بشفيقة الى درجة أنه كان يأمر بفتح زجاجات الشمبانيا الفرنسية لخيولها.
شفيقة الأعلى أجرا على الإطلاق
عملت شفيقة في أكبر كازينوهات القاهرة وأرقاها بأجر خيالي، حيت اتخذت كازينو الإلدورادو كمقر لعمها ثم سرعان ما انتقلت للرقص في كازينو ألف ليلة وليلة، فكانت تظهر في ملابس مطرزة بخيوط من الذهب مزينة بالأحجار الكريمة النادرة، وبأحذية كعبها من الذهب الأبيض الخالص، مزينة بقطع من الماس الحقيقي. واتسعت شهرة الراقصة المتميزة العجيبة، فبدأت إحدى الشركات الفرنسية المتخصصة في صنع مستحضرات التجميل في انتاج ادوات ومواد تجميلية عليها صورة شفيقة، ليصل صيتها إلى أنحاء بقاع العالم، كما تلقت شفيقة أيضا عديد الهدايا من السياح الأغنياء وبعض الشركات الأوروبية الكبرى التي كانت لها ملحقات في مصر والوطن العربي.
الرغبة و انهيار الحلم
كان لها كل شيء وحصلت على كل شيء، حققت كل ما تمنت تحقيقه، إلا أنها حُرِمت من أن تكون أمًا، ولهذا السبب قررت تبني طفلا يتيما أسمته زكي.
زكي الطفل المتبني، كان مدللا لم تحرمه من أي شيء، منحته مشاعر الأمومة والحنان والحماية، نشأته في أجواء الخمور والرقص والمال من دون رقيب، جعلته شخصا فاسدا ومدمنا للخمور والمخدرات، فلما يئست شفيقة من إصلاحه قررت تزويجه لعل وعسى تستقيم حاله، لقد أقامت له حفل زفاف ضخم ومبهر وكأنه من أعراس الأساطير، بات حديث الناس في جلساتهم أيامٍ وليالٍ، غير أن حاله ساءت وفارق الحياة، بعدما تفاقمت شدة معاناته من بعض الأمراض نتيجة إدمانه للخمور والمخدرات، كان فراق زكي لا يُحتمل وصعبا جدا على شفيقة التي تألمت بشدة وكرهت كل متاع الدنيا. وليكون هذا الفواق أول درجة تنزلها شفيقة نحو الحسرة واليأس والنهاية.
انكسار شفيقة وبداية افلاسها
تمرُ الأيام والسنون وتتقدم شفيقة في العمر الذي لا مفر منه، بعد كل ما حققته من نجاحات وشهرة، كانت بداية النهاية، إذ بدأ شبابها وجمالها يذبلان، وملامحها تتغير بسبب الخمور والمخدرات التي كانت تتعاطاها خاصة بعد رحيل ابنها المتبني زكي، بددت أموالها على شاب انتهازي تزوجت منه وبعد فترة وجيزة سرق أموالها وهرب. وتغيرت الوجوه عن شفيقة لتتجه إلى ثلاث راقصات جديدات ظهرن في عالم الرقص وهن معتوقة وزهرة العربية ونفوسة غرام، ومع أنهن لم يبلغن ما بلغته شفيقة من المجد والشهرة إلا أن شبابهن وجمالهن كان كفيلاً بتفوقهن عليها.
بدأت الثروة تتلاشى بعد أن بطل سحر جمالها وولى شبابها، ولم يبقى سوى بيت واحد في شبرا، أرادت أن تعيش فيه وتُؤجر بعض غرفه لسد حاجياتها ومتطلباتها، وعندما أحبت شاباً أجبرها على بيعه، فباعته وافتتحت محلاً لبيع الخمور في شبرا، ولكنها اضطرت لبيعه لإرضاء شاب جديد أخر، الذي لم يلبث أن هجرها بعد ما باعت محل الخمور وأخذ الشاب كل ما تبقي لها من جنيهات، فاضطرت للرقص في ملهى في باب الخلق في مقابل ما يسد رمقها.
شفيقة القبطية متسولة في شوارع القاهرة
لم تجد شفيقة حلا آخر سوى التسول في شوارع القاهرة تطلب العطف والإحسان، وفي إحدى الليالي قابلها سيد درويش صدفة عرفها ولم تعرفه، فأعطاها المال، فلم تقبله حدقت في عينيه وقالت له: انا مش عايزة فلوس انا نفسي أدوق السمك. عبارة أبكت سيد درويش، على شفيقة وعلى تقلب حالها بعد الثراء والمجد والشهرة لم يبق لها من كل ذلك غير ذكراه.
نهاية شفيقة المحزنة مرضت شفيقة القبطية وأصبحت جسدا هزيلا وضعيفا، وحيدة حزينة وجائعة وعاجزة عن الحركة ومكسورة الخاطر مجروحة المشاعر، حتى احترقت آخر قطرة من قنديل حياتها وودعت الدنيا التي مجدتها لأكثر من نصف قرن، وفارقت الحياة في سنة عن 1926م عن عمر ناهز الـ الخامسة والسبعين