ما لا تعرفه عن إيلي كوهين
القاهرة … مينا ميخائيل جرجس
من أهم وأبرز القصص في تاريخ الوطن العربي في القرن العشرين، قصة عميل الموساد إيلياهو بن شاؤول كوهين المعروف باسم إيلي كوهين، الذي انتحل شخصية حقيقية لشاب عربي سوري كان يقيم بالأرجنتين وتوفي في مصر أثناء العدوان الثلاثي، وعاش إيلي كوهين باسم كامل أمين ثابت ما بين 1961–1965، حيث استطاع أن يقيم علاقات وطيدة مع القادة ين والعسكريين وسادة المجتمع حتى أصبح المستشار الأول لوزير الدفاع آنذاك قبل أن ينكشف أمره ويعدم على الملأ في ساحة المرجة سنة 1965م.
البداية
ونبدأ القصة من سنة 1924م، حين قرر اليهودي السوري الحلبي الأصل، مغادرة الشام والهجرة إلى مصر، نتيجة معاناة استمرت طويلا، وتفاقمت أكثر بوجود الاحتلال الفرنسي بسوريا وهيمنته على كل القطاعات الحيوية.
هاجر شاؤول كوهين وزوجته إلى مصر في عام 1924م، واستقرا بالإسكندرية بحي الأزاريطة تحديدا، الذي كان ومازال من أرقى وأعرق المناطق في الإسكندرية كلها. لم يتم العام حتى أُرزقت العائلة اليهودية بطفل بتاريخ 26 ديسمبر/كانون الأول عام 1924م، وسماه أبوه بــ الياهو، الدي اشتهر فيما بعد باسم ايلي بن شاؤول كوهين.
ترعرع ايلي في وسط أجواء مصرية اسكندرانية هادئة مستقرة، حفظ التوراة علي يد حاخام المنطقة وتشرب الدين اليهودي بكل أركانه وأصوله، كان طموحا ونشطا وفطن، حيث كان الجميع بمنطقة الأزاريطة يشهدون له بالذكاء الخارق.
تعلم في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية مع جيله من أبناء الإسكندرية، وفي سنة 1942م دخل إيلي بن شاؤول كوهين كلية الهندسة بجامعة فؤاد الأول، وبمجموع ممتاز خول له ذلك، وفي عام 1944م انضم كوهين إلى منظمة الشباب اليهودي في الإسكندرية وبدأ متحمساً للسياسة الصهيونية إزاء العرب.
تمر الأيام والسنين بحلوها ومرها على إيلي، حتى سنة 1948م، والتي كانت نقطة تحول وبداية حياة جديدة في عالم التجسس. خصوصا حين احتل اليهود فلسطين وقامت دولة الاحتلال، واجبار اليهود على الهجرة إلى أرض فلسطين.
في هذه الأثاء وقع إيلي كوهين في غرام وهيام جارته المسلمة الحسناء لواحظ، وكانت رائعة الجمال، وتقدم لخطبتها لكنه رفض من طرف عائلتها وعائلته في الوقت ذاته. فانكسرت معنوياته وأحبط لدرجة أنه عاش الوحدة والانكسار مدة من الزمان. حينها بدأ والده بتذكيره بالتعاليم اليهودية، وأن اليهودي لا يتزوج إلا يهودية وأن كل بنات الطوائف والأديان غير اليهودية كافرة وخطيئة، وأنهم في وقت صعب وعلى اليهود أن يتكاثروا لبناء دولتهم وضمان مستقبلهم ليعيشوا بعدها بسلام وأمان،
وهذا ما سبب لإيلي كوهين تراكم العقد والنوبات النفسية المضطربة وغير المستقرة وأيضا الإحساس بالظلم والقهر. وتعمق أكثر في الشعائر اليهودية وتقرب من الحاخامات، ودخل مسابقات كثيرة وكبيرة في حفظ التوراة ونجح فيها كلها، ومع مرور الوقت تعمق إيلي كوهين في الشعائر اليهودية لدرجة أنه لم يعد يرى دينا آخر غير اليهودية ولا يتكلم إلا في السامية، وأن اليود لهم الجنة، لكي يعيش اليهود في سلام، بجب إبادة كل الأديان الأخرى، بالرغم من هذا كله، لم ينسى إيلي لواحظ، حبه الأول والأبدي، ولم تفارق خياله للحظة واحدة، خاصة بعد زواجها من شاب مصري مسلم محترم.
ودخل إيلي كوهين في حركات متطرفة يهودية صهيونية أخرى، التي كانت موجودة أيامها في مصر، مصر التي احتضنته وأسرته، ها هو ينتقم منها بإشعال الفتن والأعمال التخريبية، ولم يكتفي بذلك، بعد حرب 1948م وقيام دولة إسرائيل، بدأ يروج ليهود مصر وحثهم على الهجرة إلى أرض الميعاد. وبعد أقل من سنة، كانت أسرته المتكونة من والديه وأشقائه الثلاثة من ضمن الأوائل والسباقين لترك مصر والهجرة إلى إسرائيل في عام 1949م، بينما بثي هو في مصر وتحديدا في الإسكندرية بأمر من المنظمات اليهودية آنذاك، لتنفيذ جرائمه.
وقعت مصر مع بريطانيا سنة 1954م اتفاقية الجلاء، ما جعل إسرائيل تسلك منحنى جديدا لزرع الخوف والفتن في مصر وبعض الدول العربية، خاصة عندما تستعمل الجمهورية المصرية القواعد العسكرية والمرافئ التجارية والمطارات والبنى التحتية التي تركتها بريطانيا. حيث كل هذه المكتسبات سيستغلها الجيش المصري ضد إسرائيل، فحاولت إسرائيل زعزعة العلاقات ديبلوماسية المصرية الأمريكية البريطانية بشتى الطرق، وذلك بترتيب لعمليات تخريبية ضد الأمريكان والإنجليز تشوه سمعة وصورة مصر عالميا واتهامها بالإرهاب، ولتحقيق أهداف إسرائيل، بعث الموساد أبراهام دار الذي دخل مصر بجواز بريطاني باسم جون دارلينغ.
أخذ جون دارلينغ 13 مجند يهودي مصري، من بينهم إيلي كوهين، تم تجنيدهم من طرف جيهالوز المنظمة الصهيونية في مصر، وقاموا في جوان/حزيران عام 1954م بتنفيذ عمليات تخريبية من نسف وتفجير مراكز وهيئات بريطانية وأمريكية وانتسابها لمصر، وبعد شهر واحد تم القبض عليهم جميعا، مع الأدلة والبراهين، حيث خلفت عملية القبض هذه صدى واسعا في إسرائيل، حيت عرفت بفضيحة لافون، المنسوبة لـ بن حاس لافوك الذي كان وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، وكانت هذه الفضيحة أكبر عار على إسرائيل وحكومتها أمام المجتمع الدولي، وما زاد الطين بلة، وجود ذلك الصراع المدمر بين بن حاس وتلامذة بن غوريون، من بينهم موشي دايان الذي كتن رئيس الأركان وشمعون بيريز. ليتم إقالة بن حاس سنة 1956م ليتولى منصب وزير الدفاع بن غوريون إلى غاية 1963م، وتم الحكم على الإرهابين بالإعدام والسجن إلا إيلي كوهين، الذي لم تستطيع الحكومة المصرية إدانته لعدم كفاية الأدلة ولذكائه ومكره الخارقين، وخرج من القضية بالبراءة التامة واسقاط التهم المنسوبة اليه.
ثبتت براءة إيلي كوهين، ومع ذلك لم يتحمل مكوثه في مصر، حيث أصبح يشعر بالتهديد ومتابعة البوليس السري له، فجمع ما يحتاجه وهاجر إلى إسرائيل، وتم تجنيده مجددا من طرف الموساد، وألحق بالوحدة 131، إذ تمت محاولة ارجاعه إلى مصر، ولحسن الحط قبضت عليه المخابرات العامة المصرية سنة 1956م مباشرة بعد العدوان الثلاثي، والذي كان تحت أعين رجالها، وأفرج عنه مرة أخرى لعدم كفاية الأدلة، بعد اعتقال دام أكثر من ثلاثة أشهر، إذ تعرف على الجاسوس المصري رفعت الجمال في أحد المعتقلات في مصر. للعلم المخابرات العامة المصرية تأسست سنه 1955م.
العودة إلى إسرائيل وبلا رجعة
عند خروجه من المعتقل. قرر كوهين العودة إلى إسرائيل نهائيا وبلا رجعة، ولحظة وصوله إلى تل أبيب سنة 1957م، قام بزيارة جهاز الموساد، وعرض عليهم خدماته، ولكنه قوبل بالرفض، وقطع الموساد كل علاقاته بكوهين، لأنه أصبح “كرتا محروقا” بالنسبة لهم، وعاش إيلي حياة الفقر، حصل على وظيفة متواضعة في شركة خاصة كمحاسب، ولكن طرد من صاحب الشركة، بوصاية من الموساد، ثم كمترجم بوزارة الدفاع، وضيق به الحال من كل الجوانب، كان محبطا وذليلا طوال الوقت، وليس راضٍ على وضعه تماما، أن بداخله صوت يقول له: ” لماذا أنت هنا؟ ما الذي تفعله بنفسك؟ ما هذه الوظيفة الوضيعة؟ انهض وابحث عن مستقبل أفضل لك، انت موهوب ولك قدرات خارقة لخدمة بلدك، وستكون أفضل وأقوى رجل في إسرائيل كلها”. كل هذا والموساد لم تغفل عنه ولا لحظة واحدة/ بل كان تحت تأثير تجربة استخباراتية لمعرفة مدى تحمله وقت الصعاب والضيق.
الموساد لا يريد خسارة صفقة استخباراتية مصيرية مع كوهين، لأنهم كانوا على يقين بمدى استعداده للتضحية من أجل إسرائيل، ناهيك عن معرفتهم بأنه كم كان أصوليا ومتطرفا وبلا رحمة.
تزوج إيلي كوهين من فتاة يهودية عراقية تدعى ناديا سنة 1959م كانت تعمل ممرضة، تعرف عليها في إسرائيل، حيث كان بلا عمل، كانت الحدود بين سوريا وإسرائيل وقتها مشتعلة تماما، خاصة بعد إعلان الجمهورية العربية المتحدة، بين مصر وسوريا، والتي كانت البعبع الذ يرعب إسرائيل ويهدد كيانها. حينها قرر الموساد بالاستعانة بإيلي كوهين واستعطافه، لزرعه جاسوسا في سوريا بدلا عن مصر، وأيضا لتوفره على كل الشروط والمواصفات، ملامحه عربية، كلامه عربي أصله سوري يجيد اللهجة السورية واللغة العربية بكل قواعدها ومفرداتها والعبرية والفرنسية أيضا، فضلا عن تعلمه اللغة الإسبانية، وخاصة أن ولائه الأول والأخير لإسرائيل واليهود، ولم يتردد لحظة واحدة في قبول هكذا عرض، الذي سوف يكون بفضله بطلا قوميا في إسرائيل وعند اليهود في العالم كله.
الرجوع إلى حضن الموساد
وعلى مدار سنة كاملة، تم تجنيد كوهين من طرف نخبة من الخبراء الإسرائيليين، تعلم خلالها جميع أركان الدين الإسلامي وأصوله بشكل خارق، حفظ القرآن الكريم وكيفية ترتيله ومعظم الأحاديث النبوية، تعمق في أمور الفقه، باختصار أصبح إيلي كوهين عربيا سوريا مسلما، دون أن ننسى تقنيات التجسس العملية، مثل استخدام الحبر السري وأجهزة الارسال والاستقبال بكل أشكالها وأنواعها الموجودة آنذاك.
كما حفظ أيضا أسماء القادة المدنيين والعسكريين والأدباء والفنانين وعائلات المجتمع الراقية، وأسماء المحافظات السورية مع أريافها، والأماكن السياحية والمقدسة، وأيضا العادات والتقاليد لكل منطقة وطوائفها أيضا.
أثناء تدريبه، لم يضيع الموساد وقته، وكانوا يبحثون له عن أصل وفصل ليندمج في المجتمع السوري وبشكل لا يسمح للشك اختراق فطنة الهدف، وعمل الموساد بوتيرة زمانية متسارعة، فالوقت بالنسبة لهم ثمين جدا، واختصاره يمد إسرائيل بالقوة وتنفيذ مخططاتها بنجاح تام، لأنهم يعتبرون أنفسهم في سباق مع الزمان، لأن العمل الاستخباراتي بالنسبة لهم متطور ومستجد وكل يوم هناك اكتشاف خبايا وطرق جديدة استخباراتية، حتى عثروا على شخصية كامل أمين ثابت.
من هو كامل أمين ثابت؟
كامل أمين ثابت الحقيقي، هو سوري الأصل وحيد أبيه أمين ثابت الذي هاجر مع شقيقه ياسين إلى الإسكندرية، لتكون محطة انطلاقة أخرى نحو الأرجنتين، ليسافر عمه ياسين إلى الأرجنتين عام 1946م، حيث لحق به كامل وعائلته عام 1947، وفي الأرجنتين، عملا الأخَوَان بكدٍّ ونجاحٍ حتى أسسا وشيدا مصنعا بعاصمة الأرجنتين للغزل والنسيج، الوسيلة كيف ومتى أصبحا من الأثراء، الله وحده عليم بذلك، وعاشوا جميعا في خير وسلام حتى توفي أمين ثابت عام 1952م إثر سكتة قلبية، كما توفيت والدته أيضا بعد ستة أشهر، فقرر العم ياسين ثابت التفرغ للمصنع ولم يتزوج أبدا، وفي عام 1960م توفي العم ياسين ثابت، وأملاك العائلة كلها ذهبت إلى كامل أمين ثابت، الذي مات هو أيضا، نتيجة العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956م، أثناء زيارته لمصر، لإبرام بعض الصفقات مع الشركاء المصريين. وكان مصدر هذه المعلومات طبعا، من بعض عملاء إسرائيل المنتشرين في مصر. ولأن العائلة أخذت الجنسية الأرجنتينية، فلا داعي للقلق بتاتا، فأُصدر جواز سفر أرجنتيني لكوهين باسم كامل أمين ثابت.
بداية المهمة والسفر إلى الأرجنتين
وسافر كامل أمين ثابت أو الياهو بن شاؤول كوهين إلى الأرجنتين تحديدا في يوم 03 فبراير/شباط سنة 1961م، مغادرا تل أبيب باتجاه زيوريخ، ومنها قام بحجز تذكرة سفر سانتياغو عاصمة التشيلي باسم كامل أمين ثابت، ليدخل بونس آيرس عاصمة الأرجنتين، دون تعقيد أو تدقيق في شخصية كامل الجديدة. حيث استقبله العميل الإسرائيلي الثري جدا أبراهام الذي كان يمده بالمال والمعلومات ويطلعه على كل كبيرة وصغيرة وكل ما يجب معرفته لكي ينجح في مهمته، ليستلم الميراث ويكمل مشوار المال والأعمال لعائلة ثابت، وليكون من أثرياء الأرجنتين وتحديدا بالعاصمة بوينس آيرس، التي يعيش فيها اللوبي العربي الشامي. فبدأ كامل أو كوهين توطيد علاقات صداقة وعمل وسياسة وإعلام مع العرب هناك وخاصة السوريين، حيث أصبح له دورا مهما ومحوريا في بوينس آيرس في تحفيز الرأي العام العربي هناك على حب ومساعدة الوطن الأم سوريا، تعرف من خلالها على رئيس جريدة العالم العربي، السيد عبد اللطيف رئيس جريدة العالم العربي آنذاك، واستطاع كامل مدّ جذوره وسط الجالية العربية بشكل أقوى وأمتن، ليصبح بعد ذلك بطلا عربيا يساند العرب والقضية الفلسطينية ويدعم سوريا بالمال والأعمال، لدرجة أن السفارة السورية باتت تبعث بتقارير لسوريا تصف فيها نزاهة وبطولات كامل أمين ثابت، وما يقدمه من مساعدات لبلده سوريا وللجالية العربية بالأرجنتين ومدى محبة اللوبي العربي له، وكيف كانت كلماته مؤثرة مسموعة لدى الجميع. فاستدعته القيادة السورية وخاصة رئيس البعث السوري، وطُلب منه قبول الإقامة في دمشق بدلا عن الغربة والبعد، وأن سوريا والوطن العربي بحاجة ملحة إلى هكذا شخص، يفيد البلاد والعباد بتجاربه وأعماله البطولية، وتحقق هدف الموساد أوليا وبدأت العملية تأخذ منحنى أكثر خطورة وجدية، وكان ذلك.
الدخول إلى سوريا
سافر كامل أمين ثابت أو إلياهو بن شاؤول إلى بيروت أولا، بعد القيام بدورات تدريبية مكثفة وواسعة في بعض عواصم أوروبا، في يناير/كانون الثاني سنة 1962م، ليدخل الأراضي السورية عن طريق أحد المعابر البرية، لبتم ادخال لوازم التجسس كجهاز الارسال والاستقبال وبعض المستلزمات الأخرى التي تخدمه فيما بعد، في هذا الوقت بالذات كانت الرشاوي منتشرة بشكل فظيع ومخيف في صفوف حراس ودوريات الحدود السورية، ونجح كامل في ادخال كل ما يريد بواسطة الرشاوي الخيالية التي كان يوزها على بعض مسؤولي الحرس الحدودي، بل كانت هذه الرشاوي تدفع بشكل دوري ومنتظم وكأنها راتب شهري، عبارة عن هدايا نسائية ودولارات أمريكية، وما سهّل هذا كله أن قبل وصوله إلى سوريا، قامت السلطات المعنية بالتوصية عليه، كونه بطلا قوميا.
وفي دمشق استقبل كامل أمين ثابت بحفاوة، استقبال يليق بشاب عربي سوري مسلم عاد إلى وطنه، لإمداده بالخبرات والإنجازات التي يحتاجها آنذاك، حيث أعلن كوهين أنه قرر تصفية كل أعماله العالقة في الأرجنتين ليظل في دمشق الحبيبة، وبعد شهرين من استقراره في دمشق، بدأ كوهين في ارسال رسائله إلى الموساد بواسطة جهاز الارسال اللاسلكي مورس، بمعدل رسالتين أسبوعيا واستمر على هذا الوضع مدة ثلاث سنوات دون انقطاع.
ولم يمضي أسبوعان فقط، حتي صار إيلي كوهين رجلا سوريا يتمتع بكامل حقوقه الشخصية والمدنية، اختار حي أبو رمانة مسكنا له، وهو من أرقى وأفخم وأعرق الأحياء الدمشقية ولا يزال إلى يومنا هذا. كما كان يبرم شوارع وحارات الشام وسوريا بكل حرية وأريحية، حيث تم تصوير كل ما طلبه الموساد دون خوف أو عناء، بحجة الشوق والاشتياق للبلاد وحنينها. والمصيبة الأكبر هولا، فتح شركة للاستيراد والتصدير، ليأخذ حريته أكثر في بعد المعلومات المتمثلة فب العقود والصفقات والصور للمنشئات العسكرية والمدنية والبنى التحتية، إذ تخصص في تصدير القطع الخشبية الفنية المرصعة لأوروبا وأمريكا، التي كان يخبأ فيها المعلومات التي ذكرناها سابقا. أما المعلومات الفورية، التي لا تتحمل التأخير فكانت ترسل من بيته في أبو رمانة عن طريق جهاز الارسال اللاسلكي مورس، الذي كان يغيره من فترة لأخرى، حسب الحداثة والتطور وتغيير التقنيات وأيضا التعليمات التي يتلقاها من تل أبيب، وكان كل شيء يسير على ما يرام.
علاقات سمحت له باختراق أسوار سوريا
شبكة العلاقات الواسعة العميقة والقوية التي أسسها كوهين مع ضباط الجيش والمسؤولين الأمنيين وقيادات حزب البعث السوري، سمحت له بحرية التجول والكلام، والأهم من ذلك كله، زياراته الدورية والمنتظمة لأصدقائه في مقر عملهم، كانوا يتحدثون معه بكل حرية واريحية، عن كيفية استعداداتهم في حال اندلاع الحرب مع إسرائيل ويجيبون على أي سؤال تقني يتعلق بطائرات الميج أو السوخوي، أو الغواصات التي وصلت وقتاها من الاتحاد السوفيتي أو الفرق بين الدبابة T54 وT55 وغيرها من معلومات جد دقيقة كانت محل اهتمامه. فضلا عن معرفته على تقارير عن أسماء وتحركات الضباط السوريين بين مختلف المواقع والوحدات.
صحبه أحد أصدقائه في جولة داخل زار كوهين التحصينات الدفاعية الموجودة بمرتفعات الجولان، بدعوة رسمية من أحد القادة بها، في أيلول/سبتمبر سنة 1962م، إذ تمكّن من تصوير جميع التحصينات بواسطة آلة تصوير دقيقة مثبتة في ساعة يده من صنع المخابرات الأمريكية، صور سبق أن تزودت بها إسرائيل عن طريق وسائل الاستطلاع الجوي الأمريكية، غير أن التي أرسلها كوهين دقيقة مفصلة تؤكد صحتها.
أرسل كوهين في عام 1964م، معلومات دقيقة مفصلة للخطط الدفاعية السورية في منطقة القنيطرة، حيث أبلغهم بوصول صفقة دبابات روسية من طراز T54 وأماكن توزيعها وكذلك تفاصيل الخطة السورية التي أُعدت بمعرفة الخبراء الروس لاجتياح الجزء الشمالي من إسرائيل في حالة نشوب الحرب. وازداد نجاح كوهين خاصة مع سخائه في إغراق الهدايا على مسؤولي حزب البعث السوري.
تعرف كامل على ابن أخي رئيس الأركان السوري، الذي من خلاله، توغل كامل إلى أعماق النظام السوري، وبالفعل قام كامل بتأسيس علاقات على أعلى مستوى في سوريا، كما وصل بذكائه ومن دون استثناء إلى جميع القيادات العليا للجيش السوري، بلا تعب أو عناء، حيث كان كل شيء يمضي بوتيرة سلسة منتظمة وطبيعية جدا.
أخبار كامل أو إيلي كانت تنتشر بسرعة البرق، خاصة في وسط حزب البعث السوري، لما يقدمه كامل من خدمات وصفقات تجارية تخدم البلاد وتدعم اقتصادها في فترة عصيبة أنداك، فضلا عن التبرعات المالية الضخمة للجيش السوري، ودعمه بالمعدات والأسلحة الحربية والمساهمة في بناء البنى التحتية العسكرية منها والمدنية أيضا. كل هذه الأعمال وما كان ينتج عنها، تُصور وتُبعث إلى الموساد عن طريق الخشب السوري المرصع، لدرجة ظفره بمنصب نائب رئيس حزب البعث السوري في وقت وجيز جدا جدا جدا!!!!..
كوهين نائبا لوزير الدفاع السوري
منصبه بحزب البعث السوري كان يخوله ويؤهله إلى منصب وزاري بوزارة الدفاع، وهذا يعني الموساد داخل وزارة الدفاع السوري وفي مرحلة حرجة، إلى أن ظفر بمنصب نائب وزير الدفاع السوري، أما الكارثة العظمى، هي أنه كان مرشحا ليكون الوزير الأول أو بمعنى أخي زير الوزراء السوري، الأخطر من هذا وذاك، أن خلال منصبه كنائب لوزير الدفاع. تم كشف كل ما تملكه سوريا من أسلحة ومخططات قيد الإنجاز ومشاريع مستقبلية، بالاختصار المفيد، سوريا كلها تحت أعين الموساد، حتى تحركات الجيش السوري السرية جدا، كانت إسرائيل بالمرصاد لها، وحتى عند تشكيل لجنة سرية، الذي كان إيلي كوهين رئيسها، لكشف الخائن الذي كان يسرب المعلومات لإسرائيل من داخل الجبهات السورية، حقا كارثة بكل المقاييس!!!! حيث لم يخطر ببال أحد منهم وحتى رجال المخابرات السورية، أن كامل أمين ثابت هو الجاسوس الخائن، وكان سببا مباشرا بعد ذلك في ضياع هضبة الجولان من سوريا، لا أكثر ولا أقل.
رفعت الجمال ومحاسن الصدف
كامل أمين ثابت كان ذكيا وحريصا، ولم يستطع لا المخابرات السورية ولا السوفياتية ولا حتى المصرية من كشف الستار عنه، بل الصدفة أو ربما لعبة أقدار الجواسيس، التي تؤكد على أن لكل جاسوس نهاية، حيث يظهر الجاسوس المصري في إسرائيل رفعت الجمال، ليكشف صدفة حقيقة كامل أمين ثابت، وكان هذا خلال زيارة وفد رفيع المستوى من مصر وسوريا بدعوة من الحكومة الإيطالية، ونشر صورة لهم مع الرئيس الإيطالي، احتفالا بإبرام المعاهدات والصفقات، حينها كان رفعت الجمال في جولة في أرجاء إيطاليا مع السياح اليهود، بحكم عمله كرجل أعمال شهير في إسرائيل وصاحب شركة سياحية الأكبر من نوعها في تل أبيب، وهو يتصف الجرائد الإيطالية، وفخورا بداخله وصمته بإنجازات وتطورات مصر في تحسين علاقاتها الخارجية، خاصة مع أوروبا، انتبه لوجود كامل أمين ثابت، ولأنه الوحيد في الصورة باللباس المدني وسط الجميع بلباس الجيش، على كل حال، أياً كان سيلاحظ ذلك، ومن يومها وهو يتحقق في الموضوع، إلى أن رجعت به الذاكرة إلى عام 1956م بعد العدوان الثلاثي على مصر، وتأكدا قطعا أن الي في الصورة يهودي اعتقل معه وكان رفيق زنزانته ولمدة 3 أشهر، وهي مدة ليست هينة على رجل تدرب على كل أنواع الوسائل والأدوات الاستخباراتية المادية منها والمعنوية أيضا، وأن اسمه إلياهو كوهين، صحيح يبدو إيلي كوهين متغيرا نوعا ما خاصة الوجود الشنب أو الشوارب، ولكنه هو بلحمه وشحمه ودمه، فاتصل بقائده في المخابرات العامة المصرية السيد نجيب هاشم، وسلّمه المعلومة، لتقوم بعدها المخابرات العامة المصرية بالبحث في أرشيف المعتقلين لسنة 1956م وكانت المفاجأة الصاعقة.
تلقى الرئيس جمال عبد الناصر المعلومة وكأنها صاعقة وقعت على رأسه، فاتصل فورا برئيس المخابرات العامة المصرية وكلفه بالتوجه إلى دمشق لحل اللغز الكبير والطويل الذي شغل وعكر أجواء القيادات السورية لعدة سنوات، وتحديدا إلى الرئيس شخصيا.
في ظل هذه الشكوك والبحث عن الخائن الجاسوس، بعثت السفارة الهندية بلاغا تخبر فيه السلطات السورية عن وجود أجهزة أجنبية وغالبا ما تكون مورس، تقوم بتشويش مستمر للرسائل الديبلوماسية الهندية التي تبعثها السفارة إلى الهند، فتيقنت السلطات السورية أن هذ هو السبب الرئيسي في كشف الأسرار العسكرية لإسرائيل، وأن هناك جاسوسا يسكن المنطقة، دون أدنى شك في كامل أمين ثابت، وتم وقتها البحت المكثف والتحقيقات على مستوى سامي، لكن دون جدوى، والسبب ضعف الخبرة والإمكانيات التي يستند عليها جهار المخابرات السورية، إلى أن وصل الوفد السامي المصري المتكون من أكفأ العناصر برئاسة رئيس المخابرات العامة المصرية اللواء صلاح نصر إلى دمشق، وسلم رسالة الرئيس جمال عبد الناصر إلى الرئيس السوري أمين حافظ، وكانت صاعقة أخرى تصيبه ولكن أقوي بكثير من تلك التي أصابت جمال عبد الناصر. فأمر الرئيس أمين حافظ رئيس المخابرات السورية بالقبض الفوري على كامل أمين ثابت وتفتيش منزله الذي يجاور السفارة الهندية، والبحث عن أداة الجريمة.
القبض على كامل أمين ثابت
دخل رجال المخابرات السورية شقة كامل، بعد ما كسروا الباب فوجدوه يثور ويندد ويهدد، ولكن المخابرات السورية أدت عملها بكل برودة واتقان، ولم يجدوا شيئا على الإطلاق، فردت الروح والعافية في كامل ولكن بشكل مؤقت فقط ولدائق معدودات. إلى أن لاحظ أحدهم أت تركيب المكيف الهوائي يثير الشكوك والاستفهام، فنظر إلى كامل نظرة ثاقبة دقيقة، جعلته يتوتر خاصة كان كامل تقريبا لا تفارق عيناه المكيف، وكان ذلك ووجدا جهاز الارسال مورس وبعض الأدوات الاستخباراتية داخل المكيف، الذي لم يكن يمتلكه حتى بعض الأثرياء.
قبض على كامل أمين ثابت، وحاولت إسرائيل جاهدة لاسترجاعه، ولكن دون جدوى، أبرمت معاهدات ومفاوضات ولكنها قوبلت كلها بالرفض القطعي، وحُكم على إيلي كوهين بالإعدام شنقا الذي نُفذ بساحة المرجة الشهيرة وسط دمشق أمام الملأ، في يوم 18 مايو/أيار سنة 1965م، كما تم حبس 6 أخرين من أعوانه وتبرئة 30 أخرين من بينهم 9 نساء.
بقى إيلي كوهين معلقا في الساحة مدة 3 أيم كاملة، ليكون درسا وعبرة للخونة والجواسيس، وضع في صندوق خشبي ودفن في مكان لا يعرفه سوى رجال المخابرات السورية، فحاولت تل أبيب استعادت جثمانه وبكل الوسائل والطرق، غير أن قرار رفض سوريا لمطالب تل أبيب كان متكررا ولا رجعة فيه، لمل كبّده إيلي كوهين من خسائر لسوريا من أهمها وأعظمها هضبة الجلان.
لا تزال إسرائيل تجدد فرص البحث عن إيلي كوهين، واستطاعت خلال عملية استخباراتية خاصة جدا، في شهر جوان/حزيران سنة 2018م باسترجاع ساعة اليد الذكية التي كانت من أدوات إيلي كوهين في تسجيل الصوت والصورة لصالح الموساد، وأهدتها لعائلته وأحفاده كي يبلغوهم ببطولاته اليومية لصالح بلده وبفضله تنعم إسرائيل بالأمن والسلام، والجولان لإسرائيل من نتيجة تضحيات كوهين.