أثناء الحرب العالمية الأولى 1914-1919 وقعت مجاعة “سفر برلك ” التي حصلت في لبنان. وبات سعر القمح مرتفعا جدا ومن النادر وجوده. ففتحت بطريركية الروم الأرثوذكسية في دمشق بأمر من البطريرك غريغوريوس الرابع حداد أبوابها لإطعام الجياع والوافدين من بيروت. بدون أي تمييز بين دين او لون أو مذهب.
دمشق … أنطوانيت متى
هموم الأنسان ومشاكله وانشغاله بالعمل الخيري الدؤوب والمتواصل، دفع بالبطريرك غريغوريوس حداد الى رهن كل ما تمله البطريركية والأديرة السورية من كنوز، كما باع مقتنيات الكنائس الذهبية والفضية والنحاسية كي يشتري القمح للجياع. فباع آثار ومقدسات مسيحيه حتى ينقذ أرواح الناس من شبح الموت والضياع. وكان كل من يحضر الى الكنيسة المريمية يأخذ رغيف خبز كل يوم دون سؤاله عن ديانته أو مذهبه.
وفي يوم اشتكى المسؤول عن توزيع الخبز من كثرة عدد المسلمين الذين يحضرون لأخذ الخبز. وان عددهم أصبح أكبر من عدد المسيحيين. فرفع البطريرك غريغوريوس حداد الرغيف عاليا بين يديه وسأل موزع الخبز: “هل كتب عليه للمسيحيين فقط؟”.
فاجابه الخباز: لا أبونا.
فقال له البطريرك غريغوريوس حداد: فإذًا، عليك توزيع الخبز بمعدل رغيف يومي لكل إنسان يريد.
وفي يوم من الأيام حضر فقير يطلب من البطريرك غريغوريوس حداد
حسنة. فسأله واحد من الإكليريكيين المرافقين للبطريرك عن ديانته، فثارت حفيظة البطريرك غريغوريوس حداد وقال: “هل تمنع عنه الصدقة إذا كان من ديانة غير ديانتك؟ ألا يكفيه ذُلاً ومهانة أنه مدّ يده اليك لتُذِلَّه وتهينه بسؤالك عن عقيدته؟”.
من هو غريغوريوس الرابع حداد؟
هو غنطوس ابن جرجس الحداد، الذي وُلد في الفاتح من أوت عام 1859م في قرية عبيه قرب عاليه في متصرفية جبل لبنان تحت الحكم العثماني. درس غنطوس في المدرسة البروتستانتية الأمريكية في عبية ثم انتقل إلى بيروت عام 1872م وانتسب إلى المدرسة الإكليريكية التي أسسها مطران بيروت للروم الأرثوذكس غفرائيل شاتيلا، حيث تخرج منها عام 1875م متقناً اللغتين العربية واليونانية، كما كان ملماً باللغتين الروسية والتركية. توجه غنطوس إلى الحياة الرهبانية عام 1877م في دير سيدة النورية بحاماة السورية متخذاً اسم غريغوريوس الرابع، وتمت سيامته شماساً عام 1879م.
خلال وجوده في بيروت أسس غريغوريوس الرابع جريدة الهدية عام 1883م، وعمل رئيساً لتحريرها حتى عام 1888م. سيم كاهناً في عام 1890م، وفي العام نفسه انتدب غريغوريوس الرابع ليكون أسقفاً لطرابلس الشام. شارك ي الجبهة العربية الأنطاكية التي نجحت عام 1899م في انتخاب وتنصيب بطريرك عربي، عوضاً عن يوناني، على سدة الكرسي الأنطاكي الأرثوذكسي لأول مرة منذ عام 1724م.
عقب وفاة البطريرك ملاتيوس الثاني الدوماني، انتخب غريغوريوس الرابع بطريركاً لأنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس في السادس من أوت عام 1906م. وتم تنصيبه في الثالث عشر من الشهر نفسه في الكاتدرائية المريمية بدمشق.
اعترف كل من بطريركي القسطنطينية والقدس اليونانيين بشرعية غريغوريوس عام 1909م، وبذلك انتهت القطيعة بين هاتين الكنيستين والكنيسة الأنطاكية والتي أعقبت تعريب الكرسي الأنطاكي عام 1899م.
أسس غريغوريوس الرابع حداد العديد من المدارس، أهمها مدرسة دير البلمند في شمال لبنان، كما أنشأ الكلية الأرثوذكسية في حمص عام 1910م، وأطلق مجلة النعمة التي أصبحت النشرة الرسمية لبطريركية أنطاكية.
تم في عهد غريغوريوس الرابع انتخاب أسقف أرثوذكسي لأول مرة في كل من ريو ديجانيرو، وهو ميخائيل شحادة عام 1921م، ونيويورك، هو فيكتور يعقوب عام 1923م. وذلك لخدمة الجالية الأنطاكية في بلاد الاغتراب في الأمريكيتين.
في عام 1913م، زار غريغوريوس الرابع سانت بطرسبرغ، عاصمة الامبراطورية الروسية، بدعوة من القيصر نيقولا الثاني لحضور احتفالات عائلة رومانوف بالمئوية الثالثة لتوليها حكم روسيا، حيث تم تقليده وسام القديس ألكسندر نيفسكي من قبل قيصر روسيا. عُرف عن غريغوريوس الرابع مساندته سكان بلاد الشام خلال المجاعة التي استفحلت في البلاد في سنوات الحرب العالمية الأولى، أين فتح باب المقر البطريركي في الكنيسة المريمية أمام المحتاجين من كل الطوائف.
خلال فترة الحرب استدان غريغوريوس الرابع أكثر من عشرين ألف ليرة ذهبية لمساعدة المتضررين من ويلات الحرب ولتأمين ثمن القمح اللازم لإطعام الجائعين. كما أنه اضطر لبيع صليب ذهبي كان قد أهداه إياه القيصر نيقولا الثاني خلال زيارته لروسيا لتغطية النفقات.
أعلن البطريرك غريغوريوس الرابع تأييده للأمير فيصل بن الحسين عقب تولي الأخير زمام الحكم في دمشق مع خروج القوات العثمانية من سورية في تشرين الأول عام 1918م، كما أيد غريغوريوس مطالب المؤتمر السوري العام الأول بوحدة أراضي سورية، ومن ضمنها فلسطين، واستقلالها ورفض نظام الانتداب أمام لجنة كينغ كراين التي عينها الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون للوقوف على آراء أبناء سورية وفلسطين في مستقبل بلادهم.
عند انتخاب المؤتمر السوري لفيصل ملكاً على سورية في 08 مارس سنة 1920م، قام غريغوريوس الرابع بمبايعته. في أعقاب هزيمة الجيش العربي أمام القوات الفرنسية في معركة ميسلون أين اضطر فيصل لمغادرة دمشق قبل دخول الفرنسيين إليها كان غريغوريوس الرابع من بين الذين خرجوا لوداع الملك.
شاب التوتر علاقات غريغوريوس الرابع مع فرنسا في سورية ولبنان بسبب مواقفه المؤيدة لفيصل والرافضة لسياسة الانتداب، عندها قام الفرنسيون بالتضييق عليه والتحريض ضده، ما دفعه للإقامة في لبنان حتى وافته المنية في 12 ديسمبر عام 1928م.
توفي البطريرك غريغوريوس الرابع حداد في 12 كانون الأول 1928م شيع جثمان البطريرك غريغوريوس الرابع حداد أكثر من خمسون ألفاً من أهالي دمشق المسلمين والمسيحيين وأطلقت المدافع تحيةً له، فيما رافق الموكب الجنائزي فرسان أرسلهم فيصل، بعد أن أصبح ملكاً على العراق. وُوري غريغوريوس الرابع الثرى في المدافن البطريركية في الكاتدرائية المريمية بدمشق.