القاهرة … برلنتي عبد العزيز
أراد أحد الأمراء أن يتحقق بنفسه من صحة ما قيل عن وجود قاض عادل في إمارته، لا يستطيع أحد من المحتالين خداعه، فتنكر الأمير في زي تاجر. مستقلا جواده، وعند مدخل المدينة اقترب منه رجل كسيح يلتمس صدقة منه، فأعطاه فإذا بالكسيح يتشبث بردائه. التفت التاجر ـ الأمير ـ إلى الكسيح، وسأله قائلًا: ما الذي تريده بعد؟ ألم أعطيك صدقة؟
فقال الكسيح: بلى، ولكن أفعل معي معروفا، وخدني معك إلى ساحة المدينة، فأجابه الى طلبه، وأردفه خلفه، وفى الساحة رفض الكسيح النزول
عن ظهر الجواد.
فنهره التاجر قائلا: ما الذي يبقيك جالسًا؟ هيا انزل، لقد وصلنا إلى الساحة.
قال الكسيح: ولماذا النزول والجواد ملكي؟
وعندما اشتد بينهما النقاش، تجمع الناس حولهما، واقترحوا عليهما الذهاب الى القاضي.
وفعلًا، مضى الاثنان إلى القاضي، وكان الناس متجمعين في المحكمة، والحاجب ينادى على المتخاصمين حسب الدور، فاستدعى القاضي نجارا وحلابًا، كانا يتنازعان نقودا بيد النجار.
قال النجار: اشتريت من هذا الحلاب سمنا، وعندما أخرجت محفظتي لأعطيه ثمن السمن، أختطفها من يدي محاولا انتزاع النقود، وهكذا جئنا اليك كي تُنصفني.
أما بائع السمن فقال: هذا ما هو إلا كذبًا واتراءً، فعلًا لقد جاء النجار إلي ليشتري سمنا، وبعد ان ملأت له جرة كاملة، طلب منى أن أفك له قطعة ذهبية، فأخرجت المحفظة، ووضعتها على الطاولة فأخذها وأراد الهرب، فأمسكت به. وهذا كل ما حصل بيننا سيدي القاضي.
صمت القاضى، ثم قال: اتركا النقود هنا واحضرا غدا صباحًا!
وعندما حان دور التاجر ـ الأمير ـ والكسيح، قص التاجر ما حدث، ثم أشار القاضي للكسيح أن يأتيه بحجته.
قال الكسيح هذا كذب كله، كنت ممتطيا جوادى فى ساحة المدينة،
أما هو فقد كان جالسا على الأرض فطلب منى أن أحمله، فسمحت له بركوب الجواد، ونقلته الى المكان الذى يرغب في الذهاب إليه، ولكنه لم يرد النزول، وادعى ملكيته للجواد الذي لا املك في هذه الدنيا سواه، فكر القاضي، ثم قال لهما: اتركا الجواد عندي، واحضرا غدا صباحًا!
في اليوم التالي اجتمع المتخاصمون للاستماع إلى حكم القاضي،
فتقدم النجار والحلاب أولا لمعرفة الحكم.
فقال القاضي للنجار: النقود ملكك، ثم أشار الى الحلاب قائلًا:
أما هذا فاضربوه بالعصا خمسين مرة.
ثم استدعى الحاجب التاجر ـ الأمير ـ والكسيح، فوقفا بين يدي القاضي لسماع الحكم.
فسأل القاضي التاجر: هل تستطيع معرفة جوادك من بين عشرين جوادا؟
قال التاجر: نعم سيدي القاضي أستطيع فعل ذلك.
فسأل القاضي للكسيح: وأنت؟
فقال الكسيح: بلى، أستطيع.
ثم أخذهما القاضي الى الاسطبل، فأشار التاجر في الحال إلى جواده وقد ميزه من بين عشرين جوادا، وكذلك تعرف الكسيح على الجواد.
عاد القاضي إلى مكانه، وقال للتاجر: الجواد جوادك فخذه، أما الكسيح فاضربوه بالعصا خمسين مرة.
بعد انتهاء المحاكمة ذهب القاضي إلى بيته. فسار التاجر ـ الأمير ـ خلفه. فالتفت إليه القاضي وسأله: ما الذي تريده؟ أم أنك غير راضٍ عن قراري؟
أجاب التاجر: بلى، ولكنى أردت أن أعلم كيف عرفت أن النقود ملك النجار وليست للحلاب، وأن الجواد لي، وليس للكسيح؟
قال القاضي: أما أمر النجار والحلاب، فقد وضعت النقود في قدح ماء، ثم نظرت اليوم صباحا الى القدح لأرى ما اذا كان السمن طافيا على سطح الماء، فلو كانت النقود عائدة للحلاب، لكانت ملوثة بيديه الدسمتين، ولطفا السمن على وجه القدح ، وأما معرفة مالك الجواد فكانت أصعب، فالكسيح أشار مثلك في الحال الى الجواد من بين عشرين جوادا، ولكنني لم أقدكما إلى الإسطبل لأرى ما اذا كنتما ستتعرفان على الجواد: بل لأرى أيكما سيتعرف الجواد عليه، عندما اقتربت أنت منه التفت برأسه، ومده إليك، وعندما اقترب الكسيح إليه رفع أذنيه وقائمته مستنكرا، وهكذا عرفت أنك صاحب الجواد.
فقال التاجر ـ الأمير ـ آنذاك: أنا لست تاجرًا، بل أمير البلاد جئت إلى هنا لأعرف حقيقة ما يقال عنك. وها أنا أرى الان أنك قاضٍ حكيم، فاطلب منى ما شئت لأكافئك به.
قال القاضي: أنا لست بحاجة إلى مكافأة على أداء عملي بنزاهة وبصدق وإخلاص. كل ما أريده هو أن يعم العدل والإنصاف في البلاد وينال كل ذي حقٍ حقه.