القاهرة … سميرة عبد الله
القاهرة … سميرة عبد الله
فنان من أرقى العائلات المصرية التي تنتمي إلى أصول شركسية، مثقف ويتقن خمس لغات غير العربية، دخل عالم الفن صدفة، وكذلك خرج منه صدفة، أحب اللهو وتعاطي الممنوعات والهروب من المسؤولية نتيجة معاناته في طفولته التي لازمته إلى حين مغادرته للحياة، بسبب انفصال والديه والعيش بعيدا عنهما في مدرسة داخلية، لا تعرف سوى تطبيق القوانين والتعليمات. تطورات خطيرة في طفولته أثمرت اللامسؤولية والا مبالات. لنبدأ رحلتنا في معرفة أسرار دون جوان السينما المصرية الفنان رشدي أباظة.
البداية
ولد رشدي سعيد بغدادي أباظة في الثاني من أوت/آب سنة 1927م في المنصورة، من أب كان يعمل كضابط شرطة وأم إيطالية الجنسية، ترعرع رشدي في جو ساده الحب والتفاهم والاحترام، غير أن الأم قررت الطلاق لأسباب غير معروفة إلى غاية الساعة، دخل رشدي مدرسة سان مارك الداخلية بمدينة الإسكندرية. حينها بدأت حالته النفسية بالتراجع قليلا، بسبب انفصال والديه الذي أثر على نفسيته كثيرا، لدرجة أنه فقدَ التركيز وبات من التلاميذ الضعفاء في الراسة. اتجه إلى الرياضة التي وجد نفسه فيها، أين يُفرغ كل شحناته السالبة ليعوض بها القليل من الموجبة. وبقي على هكذا حال إلى أن دخل كلية التجارة، ولكنه لم يتحصل على الشهادة الجامعية لأنه وبكل بساطة لم يُكمل دراسته. ومع كل هذا يتحدث رشدي أباظة عدة لغات أجنبية بطلاقة كالإيطالية والفرنسية والإنجليزية والإسبانية والألمانية أيضا.
رشدي الفنان

لم يكن رشدي مكترثا بمستقبله أو حتى رسم خطوطه في مخيلته، وكل ما كان يعشقه هو النساء وتعديل المزاج واللهو، حيث كان كثير التردد على شارع محمد علي وصالات البيليارد التي كانت حديث الساعة آنذاك.
تغيرت حياة رشدي أباظة وبدأت تتحسن حين قابله المخرج السينمائي كمال بركات في إحدى صالات البيليارد، وطلب منه راجيا القيام بدور في فيلم المليونيرة الصغيرة مع فاتن حمامة. حظي الفيلم بدعاية غير عادية قبل حتى صدوره، حينها رأى والد رشدي ابنه في أفيشات الدعاية فجن جنونه، وامره بقطع علاقته بأهل الفن نهائيا، غير أن رشدي لم يستطع تنفيذ أوامر والده كونه استلم 150 جنيه مصري كأول دفعة من راتبه على الفيلم وكذا توقيعه عقد الفيلم الذي ينص في آخره على من لا يلتزم بالعقد يتحمل الشرط الجزائي والمتمثل بالدفع أو السجن، لم يستوعب الأب كلام ابنه وطرده من البيت.
بداية النجاح
كل التضحيات والتنازلات التي قام بها رشدي في سبيل الفيلم إلا أن الفيلم فشل فشلا لا مثيل له في تاريخ السينما المصرية كله. لم ييأس رشدي من فشل فيلمه الأول، حيت توالت عليه الأدوار لوسامته وجماله لا أكثر، وقام بدور مهم في فيلم أمينة للمخرج الإيطالي جيوفريدو إليساندريني سنة 1949م حيت تقاضى 500 جنية دفعة واحدة، ونجح الفيلم نجاحا باهرا وتغيرت حياة رشدي جذريا وبات الكل يتحدث عن الشاب الفنان الوسيم الذي ينتمي إلى عائلة أباظة العريقة.
النكسة الأولى
تدهورت حياة رشدي أباظة ثانية، عندما قام الملك فاروق بطرد حبيبته المغنية الفرنسية آن بيريه من مصر، بسبب رفضها دعوة الملك وتفضيلها الجلوس ومؤانسة رشدي، فصار مدمنا على الحشيش والخمور، إلى أن تعرف على كاميليا الذي أحبها حبا جنونيا، رغم أنها كانت مِلكًا للملك فاروق الأول، فكان يتردد على بيتها في عمارة الإيموبيليا مستعملا مفتاحه الخاص، لم تكن الفنانة كاميليا تعيش في سلام بسبب الضغوط الخانقة من طرف الوكالة اليهودية والموساد والمخابرات البريطانية ومضايقات الملك فاروق. فقررت هي وحبيبها رشدي أباظة الزواج وترك البلاد في أكتوبر/تشرين الثاني سنة 1950م والاستقرار في فرنسا، لأنه كان منبوذا من المنتجين والمخرجين بسبب توصية الملك فاروق عليه.
مرضت الراقصة كاميليا وقررت السفر إلى جنيف للكشف وأخذ العلاج اللازم، غير أنها لم تستطع حجز التذكرة لأن الطائرة كانت ممتلئة، فبدأت بالبكاء وانتابها شعور اليأس والملل وقلة الحظ، فجأة يظهر الصحفي أنيس منصور ويمنحها تذكرته، لأنه تشاءم من السفر بسبب إصرار والدته التي طالما حذرته من السفر في هذه الفترة وإلا سوف تفقده إلى الأبد. انفجرت الطائرة وتفحمت حين اقلاعها ببضع دقائق في يوم 31 أوت/آب سنة 1950م، فكتب أنيس منصور مقالته الشهيرة ماتت لأعيش انا.
خيانة وإخلاص
خبر انفجار طائرة كاميليا أدى برشدي أباظة إلى انهيار عصبي لازمه المصحة النفسية مدة شهر، ولأنه يعشق حب النساء أحب مجددا وبسرعة الفنانة تحية كاريوكا التي كانت تكبره بـ 12 سنة كاملة، ونسي تماما كاميليا وغرامها.
تزوج رشدي من تحية كاريوكا دون موافقة والديه، أخذها من مكان تصورها لفيلم مع إسماعيل ياسين إلى البيت، لتتفاجأ بالمأذون والشهود في انتظارهما، وتم عقد الزواج في الفاتح من ديسمبر/كانون الأول سنة 1951م، لتبدأ رحلة مرحلة جديدة في حياة رشدي أباظة.
في سنة 1953م وقعت تحية عقد عمل في لبنان لإحياء الحفلات هناك، مصطحبة معها رشدي، وفي لبنان تفاجأ رشدي بوجود آن بيريه المغنية الفرنسية التي طردها الملك فاروق الأول من مصر، فصار رشدي يقابلها أوقات شغل تحية، إلى أن شعرت تحية بأن زوجها لم يعُد طبيعيا وينفر منها بل ويخونها، فتتبعته لتكتشف المستور، فوجدته متلبسًا، لم تتمالك تحية نفسها وقامت بضرب المغنية الفرنسية وأصرت على الطلاق في عين المكان.
رشدي في إيطاليا
رجع رشدي فارغ اليدين كعادته، لا تحية ولا حتى آن، أصبح وحيدا مجددا، فعاد إلى ممارسة رياضة كمال الأجسام، وتحصل على الجائزة الثانية في بطولة كمال الأجسام في مصر سنة 1953، لم يتحمل ظروف عيشه في مصر وقرر الذهاب إلى إيطاليا بغية الالتحاق بالسينما الإيطالية، إلا أن الفشل يلازمه في كل خطواته. في إيطاليا التقى بالفنان بوب عزَّام صاحب أغنية مصطفى يا مصطفى أنا بحبك يا مصطفى الشهيرة مع زوجته الأمريكية الإيطالية باربرا، ونصحته بدراسة التمثيل في مدارس الفن والسينما في إيطاليا بدلا عن رجوعه إلى مصر ومن دون شيء. وفعلا درس رشدي التمثيل والإخراج والإنتاج السينمائي، وعندما اكتمل نضجه الفني قرر الرجوع إلى مصر واستغلال تكوينه في خدمة مجده وحياته الفنية وخدمة الفن المصري ككل.
أعمال فنية مُشرفة لشدي
عاد رشدي إلى أرض الوطن، ليتفاجأ بقدوم باربرا من إيطاليا بعد طلاقها من صديقة بوب عزام. تزوجها رشدي وانجبت منه ابنته الوحيدة قسمت، حقيقة وجود باربرا في حياة رشدي وفي هذه المرحلة تحديدا، جعله رجلا منضبطا في عمله، حيت كانت باربرا تنظم له المواعيد وتهتم بأناقته وإيتيكاته بشكل لا يُصدق، وخلال هذه الفترة قام رشدي بأعمال رائعة، مثل فيلم امرأة على الطريق إخراج عز الدين ذو الفقار سنة 1958م والذي رشحه للعالمية، غير أنها كانت غيورة جدا عليه من حبها الشديد له، إذ أصبحت تتدخل في حياته الفنية والعملية وحتى الشخصية، ما خلى رشدي يُنهي معاناته بطلاقه منها سنة 1959م ويعانق الحرية من جديد.
بعد أيام معدودات تزوجت باربرا من صديق طليقها رشدي أباظة جمال فارس، الذي كان يزن أو يشجع رشدي على طلاقه من باربرا لينعم بالحرية والهدوء واللامسؤولية. فتركت ابنتها قسمت لرشدي وسافرت مع زوجها جمال فارس إلى أوروبا. ما على رشدي أباظة في هذه الفترة بالذات إلا الرجوع إلى أصله، حيث دخل بيت والده وقبَّل قدمه وطلب منه العفو والسماح وبداية صفحة جديدة، وكان ما أراد، ومن يومها لم يشرب بعد رشدي السيجارة والخمر بل ولا حتى القهوة.
رشدي وصباح وسامية جمال
أحب رشدي الفنانة الراقصة سامية جمال، وطلبها للزواج لكنها طلبت منه مهلة زمنية محددة لتفكر بجدية في طلبه، صحيح أنها كانت مغرمة به ولكنها في الوقت نفسه تخاف من تصرفاته الطائشة والطفولية. لم يستوعب رشدي كلام سامية، فنفذ الحكاية نفسها التي فعلها مع تحية كاريوكا، حيث دخل على سامية جمال بالمأذون والشهود وفعلا تزوجا في تلك الليلة الموافقة لـ 21 سبتمبر/أيلول سنة 1962م.
بعد النكسة أصاب الفن بصفة عامة في مصر الخمول بل الشلل، فأصبح كل الفنانين يتجهون نحو لبنان القطب الفني الجديد لجميع الفنانين العرب وحتى الأجانب، وسافر رشدي للقيام بدور في فيلم شيل إيدك عن مراتي بطولة صباح المُطلقة حديثا من المُذيع محمد فراج، فأحبها رشدي أثناء تصوير الفيلم وتزوج منها وتم الطلاق بعد أقل من أسبوعين فقط. ليعود رشدي إلى مصر وهو مرعوب من ردة فعل سامية جمال، لكنه تفاجأ باستقبالها له وعفوها عنه. زواجهما استمر 18 سنة، خلاله ضحت سامية بمجدها وشهرتها لأجل رشدي وتربية ابنته قسمت، لكنه نسي كل شيء، بحيث في أحد أيام سنة 1977م طَلَّق رشدي سامية وهو في حالة سكر، بسبب مشاجرة كلامية بينهما أدت إلى انهاء قصة حب طويلة كانت حديث كل الناس.
النهاية
تَزَوَجَ رشدي من ابنة عمه الدكتورة نبيلة أباظة، حينها اكتشف وجود ورم في الدماغ يُسبب له عدم التوازن في أداء حركاته ووظائفه اليومية العادية، فسافر مع زوجته للعلاج في لندن، أين أُجريت له عملية جراحية على مستوى الدماغ باستئصال الورم، غير أنه أكتشف بعد عودته من لندن ببضعة أيام قليلات فقط، وتحديدا أثناء تصوير آخر أفلامه الأقوياء مع الراقصة هياتم، بوجود السرطان في الدماغ، لم يستطع رشدي مقاومة السرطان وفارق الحياة يوم 27 جويلية/تموز سنة 1980م، بعدما طلق نبيلة ابنة عمه، وفقد بصره ودخل في غيبوبة طويلة.