تمرُد بعض الآباء في عدم المساواة بين أبنائهم بسبب تشرّع الفتاوى الدينية للتمييز بين الأبناء في الهبات والعطايا، دون توضيح لشروط اتخاذ الآباء لمثل هذه القرارات. فتح الباب أمام عواصف من النزاعات داخل أفراد الأسرة الواحدة. مما يهدد ترابط الأسرة ويعمق الكراهية والغيرة والحقد بين الأبناء ويعكر صفو العلاقة بينهم وبين الآباء. فالانتقائية وعدم المساواة بين الجميع من الصعب أن ينتجا ترابطا أسريا قويا بين الأخوة معا أو بين الأبناء والآباء.
بيروت … الاخصائية النفسية الدكتورة ماري أبو جودة
تفضيل الأسر بعض الأبناء على أخواتهم في الهبات والعطايا، وأباحت عدم إدانة الأب لما يمنحه لأولاده، وأن ذلك ليس من المحرمات ويحق لولي الأمر أن يُعطي لأحدهم أكثر من الآخر، رغم ما يترتب على ذلك من مشكلات بين الأخوة جراء التمييز والانتقائية التي يشعر بها أحدهم أو بعضهم حيال ذلك.
اتجاه بعض الآباء للتفريق بين الأبناء لأيّ سبب كان، يتسبب في مشكلات أسرية تقود إلى نزاعات بين الإخوة، حيث يتفق خبراء التربية وعلم النفس الاجتماعي بأن هنالك تأثيرات سلبية تنتج عن هذا السلوك، لأن الابن الأقل تمييزا قد يعيش طوال حياته يشعر بالظلم ما يقوده إلى الحقد والبغض والكراهية.
ولا يزل بعض الأبناء حتى وإن بلعو سن الرشد، يعانون من تمييز أسرهم ومنح مزايا أكثر من باقي الإخوة بدعوى أنهم أكملوا تعليمهم الجامعي، ولم يتزوجوا قبل رحيل الأب، فكتب لهم الجزء الأكبر من الميراث لأنهم بحاجة إلى المال، ما نتجت عنه حساسية بين الأشقاء، لاسيما وأنهم يعانون من سوء الأوضاع المعيشية. فالاحتماء هنا بالآراء والفتاوى الدينية للتمييز بين الأبناء داخل الأسرة الواحدة من أبرز العوامل التي المحرضة للتفرقة.
أيمن الشاب اليافع الذي أكمل تعليمه، مثل باقي إخوته إلا الأخ الأكبر الذي أصر على دخول كلية الهندسة وجعل الأب يمنحه الكثير من الهبات ليؤمّن مستقبله ويحقق حلمه في استكمال دراساته العليا، ووضع له الكثير من المال في البنك كي لا يواجه أزمة في سد احتياجات التعليم والزواج، وعندما اعترض الإخوة على ذلك قبل رحيل الأب قام بتعنيفهم وبرر موقفه بتفوق أخيهم عليهم وطاعته الكاملة للأب.
ومن هذا المثال الحي، نجد أن إباحة التمييز بين الأبناء بأيّ مبرر يتسبب في توليد الكراهية والشعور بالظلم مهما بلغت النوايا الحسنة لدى الآباء، لأن منح ابن واحد أكثر مما يحصل عليه باقي الإخوة يُشعرهم بأنهم في درجة متدنية عند الأب ويخلق فجوة وسط العائلة التي أسست على التمييز، ويستمر ذلك بين الإخوة طوال حياتهم حتى لو أظهروا المعاملة الحسنة مع بعضهم.
يرى ثلة من خبراء التربية أنه لا مانع من تفضيل الأب لأحد الأبناء، أو بعضهم، عن الآخر شريطة أن يكون ذلك باتفاق بين كل أولاده، بحيث يشاركهم الرأي ويتحدث إليهم عن دوافعه قبل الإقدام على الخطوة لا أن يقرّها بالأمر الواقع لتجنب وقوع الخلافات بينهم مستقبلا، وحتى لا يتسلل الشعور بالظلم والدونية إليهم مقابل أن يكون أحدهم حصل على مكاسب مادية أفضل من الأخر.
الإباحة الدينية للتفرقة بين الأبناء في الهبات والعطايا والمكاسب الأبوية لا تعطي الآباء الحق في التمييز والانتقائية دون شرح الدوافع لكل الأولاد، فعلى الأقل يشعرهم بقيمتهم وحقهم في مشاركته ما يملك، قبل أن يمنح ويعطي لأحد أكثر من الآخر، عكس قيام الأب بتفضيل أحد الأبناء وتجاهل الجميع، لأن ذلك سوف تنتج عنه تداعيات سلبية بالغة الخطورة عليهم مستقبلًا.
في حين يرى بعض الخبراء الآخرون أن الاحتماء بالآراء الدينية للتمييز بين الأبناء داخل الأسرة الواحدة بذريعة التحفيز على النجاح أو إظهار الحب والمودة وتأمين المستقبل من أبرز العوامل التي تكرس الحقد والبغض والتفرقة حتى لو كانت الإباحة الدينية مستوحاة من حرية الأب في التصرف بما يملك، لأن ذلك وإن لم يولّد الكراهية سوف يجعل الأبناء يتصارعون على الاقتراب من الأب بأيّ طريقة كانت ليحقق كل منهم مكاسب مضاعفة دون حب أو مودة.
مما لا شك فيه، أن تمييز أحد الأبناء عن إخوته خطأ في حق الطرفين، سواء الذي حصل على مكتسبات أكثر أو الأقل استفادة، لأن المحرومين من الهبات يشبّون ولديهم كراهية للأخ المفضل لدى الأب، ويمكن أن يشعروا بالدونية وعدم الثقة بالنفس فتتولد في وجدانهم مشاعر الغيرة وتغلب عليهم الأفكار التي تقود إلى النزاعات لا تنتهي بينهم حتى وإن تظاهروا بالمودة القرب.
فشعور الابن بأنه مميز عن باقي إخوته قد يجعل منه إنسانا أنانيا محبا للتملك والسيطرة، لأنه تربى على أنه أفضل من غيره ويتعامل على أنه شخصية استثنائية ومميزة، وبالتالي فالتفضيل غير الرشيد يؤسس للفرقة بين الأبناء وربما يقود إلى عقوق الوالدين من جانب الأولاد الذين لم يتم تمييزهم، لأنهم يشعرون بالظلم الاضطهاد والتهميش.
غالبًا ما تكون الميول الأبوية عند العرب تجاه أحد الأبناء مسألة طبيعية لأنهم يختلفون في الطباع الشخصية، لكن الإفصاح عن ذلك علانية، مع التمييز المادي والمعنوي، يؤسس لأسرة مفككة تسودها الأنانية، ولذلك فأيّ تربية أسرية قائمة على الانتقائية وعدم المساواة بين الجميع من الصعب أن تنتج ترابطا أسريا قويا بين الإخوة وبين الأبناء ةالآباء.

