“الجزء الثاني”
لقد تناولنا في الجزء الأول عن حيثيات عمليات التفجير الإرهابية التي قامت بها إسرائيل في مدينتي القاهرة والإسكندرية، والتي كانت بقيادة جان دارلينغ وتنسيق مارسيل نينو. لذلك، سوف نسلط الضوء على شخصية مارسيل في هذا الجزء وعن أعمالها ومسيرتها من مصر وصولًا إلى إسرائيل.
القاهرة … مينا ميخائيل جرجس
ولدت فيكتورين مارسيل يعقوب نينيو، والمعروفة بالاسم الحركي كلود، في الخامس من نوفمبر سنة 1929م، بالقاهرة لأسرة مصرية يهودية. كانت بطلة رياضية مثلت مصر في الألعاب الأولمبية سنة 1948م. فر والدها يعقوب نينو من بلغاريا قبل الحرب العالمية الأولى مُتجهًا إلى القدس. وهناك أشرف على مشاريع عديدة. بما في ذلك، تركيب شبكة المياه في فندق الملك داود بأورشليم.
أما والدتها فاني، كانت يهودية تركية الأصل. بعد وفاة والدها وهي لم تتعدى بعد سن العاشرة، التحقت بمدارس مختلفة. بما في ذلك، مدرسة أطفال اليهود التي تديرها راهبات الطائفة الكاثوليكية، وكانت نينيو مجتهدة تتحدث بطلاقة العربية والإنجليزية والفرنسية.
عملت في السكيرتارية كغطاء لنشاطها الأصلي بعد أن جندت من قبل الوكالة اليهودية في وحدة الاستعلامات التابعة لهم في مصر عام 1951م. وهي بذلك المرأة الوحيدة المُجندة من قبل عميل مخابرات إسرائيلي يُدعى أبراهام دار أو جان دارلينغ في الوحدة السرية 131 والتي كانت تضم عشرات الرجال اليهود بمختلف أعمارهم.
شاركت مارسيل نينيو في عملية سوزانا، التي عرفت بعد ذلك بـفضيحة لافون، نسبة لاسم وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، والتي تتمثل في خوف إسرائيل من احتمالية تأميم قناة السويس بعد تولي جمال عبد الناصر السلطة، مما جعل اسرائيل تأمر أعضاء وحدة التجسس والتخريب بالقيام بعمليات تفجير في عدة قطاعات في مصر. بما في ذلك، قاعات السينما والمراكز التابعة للدبلوماسية الأمريكية والبريطانية، لزرع القلق وخلق سوء تفاهم بين مصر والبلدان المذكورة سابقًا.
كان نشاط هذه المجموعة التابعة لوحدة 131خامدا بشكل كبير، إلى أن وصل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى الحكم بعد عامين من الإطاحة بالملك فاروق وتحديدًا سنة 1954م. كانت إسرائيل قلقة جدًا من تأميم قناة السويس عندئذٍ، أوكلت مهمة الوحدة 131 بتفجير القنابل، في عملية تهدف إلى إقناع القادة البريطانيين والأمريكيين أن ناصر لا يستطيع حماية ممتلكاتهم أو رعاياهم، لكن العملية سوزانا، كما كانت تسمى، لم تفعل شيئًا لإثارة الفوضى في السياسة الغربية تجاه مصر.
في شهر جويلية من سنة 1954م، زرعت الوحدة أجهزة حارقة في مكتب بريد الإسكندرية المركزي وبعض المنشئات الثقافية والأكاديمية، وكذلك في مكتبات أجنبية أخرى. بما في ذلك، وكالة معلومات الولايات المتحدة في القاهرة والإسكندرية.
ولحسن الحظ، انفجرت عبوة ناسفة بمسرح الإسكندرية القومي في جيب أحد المنفذين، ما جعل ثيابه تشتعل. وبذلك، تم اعتقاله واعتقال الآخرين ما أدى إلى خلق الارتباك والقلق والتوتر لدى مارسيل نينيو. نينيو التي كانت تحمل الاسم الرمزي كلود، لم تكن الفاعلة أو المنفذة، بل كانت مسؤولة عن الاتصال والتواصل بالجهات الفاعلة الأخرى.
بعد القبض على المجموعة الإرهابية، فرت مارسيل نينيو من القاهرة في شهر أوت مستقلة حافة سياحية متجهة إلى منطقة راس البر في البحر الأبيض المتوسط. وأثناء تواجدها في أحد الفنادق وتحديدا عندما كانت تتناول وجبة الغذاء ظُهرًا، سمعت اسمها يتردد على أحد مكبرات الصوت في الفندق للرد مكالمة هاتفية. وعندما وصلت إلى الهاتف، ألقى رجال الأمن المصري القبض عليها ونقلوها بالقطار إلى القاهرة، حيث تم استجوابها. وبدأت محاكمتها في أواخر عام 1954م في القاهرة، وقضت المحكمة بشنق اثنين من منفذي العمليات الإرهابية، وسجنت نينيو لمدة 15 عاما وأرسلت إلى سجن النساء في مطلع 1955م. وفي سجن النساء، كانت تُشغِل آخر بثّ للإذاعة الإسرائيلية لسماع النشيد الوطني الإسرائيلي Hatikvah أي الأمل.
المهمة الفاشلة التي تورطت فيها نينو كانت لها تداعيات سياسية حادة في إسرائيل. وقال موشيه شاريط، رئيس الوزراء آنذاك، بأنه لم يتم اطلاعه على العملية السرية. وبعد وقت قصير من المحاكمة، استقال بنحاس لافون، وزير الدفاع مُدعيًا أنه لم يكن على علم بالمهمة الفاشلة، فيما أصرَّ العقيد بنيامين غيبلي، رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية، على أنه تلقى أوامره من لافون شخصيًا.
وتم بالفعل تأميم قناة السويس في عام 1956م، على يد عبد الناصر شركة مصرية وعادت فضيحة عملية سوزانا أو لافون إلى الظهور في أواخر عام 1960م واستمرت حتى العام التالي، عندما استقال رئيس الوزراء ديفيد بن غوريون لفترة وجيزة من منصبه بعد أن اختلف علنًا مع تقرير صادر عن لجنة وزارية، برأ لافون من الاتهامات المنسوبة إليه.
بعد القبض والحكم عليها بالسجن مدة 15 سنة نافذة، وبعد محاولتي انتحار، قضت مارسيل نينو 14 سنة من مدتها ليُفرج عنها في إطار اتفاقية لتبادل الأسرى بين القاهرة وتل أبيب.
وإثر استقرارها في تل أبيب، تزوجت من إيلي بوغر، وكان أحد ضيوفها رئيسة الوزراء غولدا مائير. وقد أدى قبولها العلني للدعوة إلى قيام مراقبين عسكريين إسرائيليين بنشر المزيد من المعلومات حول عملية التخريب الفاشلة.
تعلمت مارسيل نينيو اللغة العبرية الأكاديمية، لتلتحق بجامعة تل آبيب وتتخرج منها. كرمتها رئيسة الوزراء غولدا مائير ومنحتها رتبة مقدم في سلاح الاستخبارات الإسرائيلية.
في عام 1975م، حين ظهرت على شاشة التلفزيون الإسرائيلي، أعربت عن شعورها بالإحباط لأن الساسة الإسرائيليين لم يُحرروها هي ورفاقها في الوقت المحدد، بل تركوها تتعذب وتعيش الويلات في السجون المصرية.
وفي عام 1986م، كان الوضع مختلفًا تمامًا، حيث تحدثت في حوار مُطول مع صحيفة Maariv الإسرائيلية الناطقة بالعبرية، عن قصر وجمال الحياة وانه لمن الجهل والعار إهدارها في الشعور بالمرارة، وقالت جملتها الشهيرة: “انظروا إلى ما لدينا من بلد جميل”.
تذكير … خلال سنوات طويلة منعت الرقابة العسكريّة الإسرائيليّة الإعلام من نشر أيّ شيءٍ عن القضية، والتي عُرِفت بالاسم الحركي “الفشل المُشين”، وبعد أكثر من ستين عامًا على تفجر القضية، ما زالت أكثر تفاصيلها ممنوعةً من النشر. حسب ما جاء في صحيفة هارتس.