القلوب الرحيمة
أحيانًا، يجد الشخص الرحمة في قلوب الحيوانات أكثر مما يجدها في قلوب البشر. والكلاب التي آوته لم تسأله عن نسبه ولا عائلته، بل أحبته كما هو، وحمته من عالمٍ لم يعرف فيه سوى الخوف والحرمان. وهذه حكاية من حكايات غنوجة عن طفولة ضائعة، لكنها أيضًا حكاية عن الأمل، وعن كيفية إيجد العائلة في أكثر الأماكن غير المتوقعة تمامًا!
موسكو … نسيم مسعودي
في موسكو عام 1996م، كان هناك طفل صغير لا يتجاوز الرابعة من عمره اسمه إيفان ميشوكوف. ولد سنة 1992م في بيت يفتقد أبسط معاني الطفولة. أم مدمنة على الكحول، ورجل غريب يعيش معهم، لا يعرف سوى القسوة والإهانات والضرب الإهانة. لم يعد البيت بالنسبة لإيفان ملجأً آمن، بل تحوّل إلى سجنٍ يخنق أنفاسه. وفي لحظة تمرد وشجاعة طفولية، قرر أن يهرب تاركًا خلفه كل شيء.

اختار إيفان ميشوكوف الشارع على أن يبقى سجينًا بين جدران منزلٍ لا يمنحه الأمان ولا الحرية والراحة. ولكن الشارع لم يكن مكانًا رحيمًا. فبرد موسكو القارس يستطيع أن يقتل أي طفل، والجوع ينهش الجسد قبل أن ينهش العقل.
وسط هذه القسوة، حدث ما يشبه المعجزة. إيفان وجد قطيعًا من الكلاب الضالة، وبدل أن تخاف منه أو تؤذيه، تركته يقترب منها. بدأ يقدّم لها بقايا الطعام الذي يحصل عليه من المطاعم وصناديق القمامة، شيئًا فشيئًا تحولت العلاقة من مجرد تبادل للطعام إلى رابطة ولاء وحماية. الكلاب صارت أسرته الجديدة، تحيط به كل ليلة لتدفئ جسده الصغير، وتهاجم كل من يحاول الاقتراب منه بسوء.
لمدة عامين كاملين عاش إيفان ميشوكوف كواحد من هذه الكلاب. كان يلعب معهم، ينام بينهم، يجري في الشوارع بجوارهم، حتى أن رجال الشرطة عندما حاولوا القبض عليه أكثر من مرة لم ينجحوا، لأن الكلاب كانت تدافع عنه بشراسة. لقد وجد الأمان بين الحيوانات، الأمان الذي حرمه منه بنو جنسه.
لكن في النهاية، وضع رجال الشرطة خطة. تركوا الطعام أمام مطعم شهير، وعندما انشغلت الكلاب بالأكل، استطاعوا أن يمسكوا بإيفان أخيرًا. لم يكن الأمر سهلاً، كان يصرخ ويقاوم، فقد كان قلبه متعلقًا بقطيعه أكثر من أي إنسان آخر، بل أكثر من أمه.

المفاجأة أنَّ عودة إيفان ميشوكوف إلى المجتمع لم تكن مستحيلة كما توقع البعض. على عكس الأطفال المتوحشين الآخرين الذين يفقدون لغتهم إلى الأبد، كان إيفان قد تعلم الكلام قبل أن يهرب، فاستطاع أن يستعيد لغته ويتأقلم بسرعة مع العالم من حوله. وبعد فترة، تبنّته أسرة جديدة ومنحته الدفء والرعاية التي افتقدها في بيت أمه. واليوم، صار إيفان رجلًا بالغًا يعيش حياة طبيعية. لكن قصته تظل شاهدة على درس إنساني مؤثر

